الخليج العربيّ
04 كانون الأول 2023, 08:15

البابا فرنسيس في كلمته خلال مؤتمر COP28: لنصغِ إلى أنين الأرض وإلى صرخة الفقراء وآمال الشّباب وأحلام الأطفال!

تيلي لوميار/ نورسات
في كلمة توجّه بها البابا فرنسيس إلى قادة العالم، وقرأها أمين سرّ دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين خلال ترؤّسة الوفد الفاتيكانيّ إلى مؤتمر الدّول الأطراف في اتّفاقيّة الأمم المتّحدة الإطاريّة بشأة تغيّر المناخ، والّذي عُقد في دبي، دعا الأب الأقدس المعنيّين إلى التّغلّب على الانقسامات من أجل المضيّ قدمًا في العمل المشترك ضدّ تدمير الخليقة.

وفي كلمة البابا الّذي لم يتمكّن من السّفر إلى دبي لدواع صحّيّة، أسف بداية لعدم تواجده بينهم وقال بحسب "فاتيكان نيوز": "للأسف لا أستطيع أن أكون معكم، كما كنت أتمنّى، ولكن أنا معكم لأنّ مستقبل الجميع يعتمد الآن أكثر من أيّ وقت مضى على الحاضر الّذي نختاره. أنا معكم لأنّ تدمير الخليقة هو إهانة لله، وهي خطيئة ليس فقط شخصيّة، بل هيكليّة تؤثّر على البشر، ولاسيّما على الأشخاص الأشدَّ ضعفًا، خطر جسيم يهدّد الجميع، ويخاطر بأن يطلق العنان لصراع بين الأجيال. أنا معكم لأنّ تغيّر المناخ هو "مشكلة اجتماعيّة عالميّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بكرامة الحياة البشريّة". أنا معكم لكي أطرح السّؤال الّذي نحن مدعوّون إلى أن نجيب عليه الآن: هل نعمل من أجل ثقافة الحياة أم الموت؟ أطلب منكم، من كلِّ قلبي، لنختَر الحياة، لنختَر المستقبل! لِنُصغِ إلى أنين الأرض، ولنُصغِ إلى صرخة الفقراء، ولنصُغِ إلى آمال الشّباب وأحلام الأطفال! لدينا مسؤوليّة كبيرة: أن نضمن ألّا يُحرموا من مستقبلهم.

من الواضح أنّ التّغيّرات المناخيّة المستمرّة تنبع من ظاهرة الاحتباس الحراريّ، النّاجمة بصورة رئيسيّة عن زيادة الغازات الدّفيئة في الغلاف الجوّي، والّتي يسبّبها بدوره النّشاط البشريّ، الّذي أصبح في العقود الأخيرة غير مناسب للنّظام البيئيّ. لقد تحوّلت مطامح الإنتاج والامتلاك إلى هوس وأدّى إلى جشع بدون حدود، جعل البيئة موضوع استغلال جامح. إنَّ المناخ المجنون يبدو بمثابة تحذير لوقف هذيان القدرة المطلقة. لنعُد إلى الاعتراف بتواضع وشجاعة بمحدوديّتنا كالدّرب الوحيد لكي نعيش بشكل كامل. ما الّذي يعيق هذه المسيرة؟ الانقسامات الموجودة بيننا. لكنَّ عالم مترابط، مثل عالم اليوم، لا يمكن أن يفصله الّذين يحكمونه، من خلال مفاوضات دوليّة "لا يمكنها أن تتقدّم بشكل حاسم بسبب مواقف الدّول الّتي تعطي الأولويّة لمصالحها الوطنيّة بدل الخير العامّ العالميّ". نحن نشهد على مواقف قاسية، لا بل مُتشدّدة، تميل إلى حماية إيراداتها وعائدات شركاتها، وتبرّر نفسها أحيانًا على أساس ما فعله الآخرون في الماضي، مع مرتدّات دوريّة للمسؤوليّة. لكن واجبنا اليوم ليس تجاه الأمس، وإنّما تجاه الغد، الّذي، شِئنا أم أبَينا، إمّا أن يكون للجميع أو لا يكون.

تؤثّر بنا بشكل خاصّ، المحاولات الرّامية إلى إلقاء المسؤوليّة على الفقراء الكثيرين وعلى عدد الولادات. إنّه ليس ذنب الفقراء، لأنّ حوالي نصف فقراء العالم مسؤولون عن ١٠% فقط من الانبعاثات الملوِّثة، في حين أنّ الفجوة بين الأثرياء القليلين والفقراء الكثيرين قد زاد حجمها أكثر من أيّ وقت مضى. هؤلاء هم في الواقع ضحايا ما يحدث: لنفكّر في الشّعوب الأصليّة، وإزالة الغابات، ومأساة الجوع، وانعدام الأمن المائيّ والغذائيّ، تدفّقات الهجرة المستحثَّة. إنَّ الولادات ليست مشكلة، بل هي مورد: هي ليست ضدّ الحياة، وإنّما من أجل الحياة، فيما تُمثّل بعض النّماذج الأيديولوجيّة والنّفعيّة الّتي تُفرَض برفق ولين على العائلات والسّكّان استعمارًا حقيقيًّا. لا نعاقبنَّ تنمية بلدان عديدة، تُثقلها الدّيون الاقتصاديّة المرهقة؛ وإنّما لنأخُذنَّ بعين الاعتبار تأثير بعض الدّول، المسؤولة عن دين بيئيّ المقلق تجاه العديد من الدّول الأخرى. وبالتّالي سيكون من الصّواب أن نُحدّد الأساليب الملائمة لسداد الدّيون الماليّة الّتي تُثقل كاهل شّعوب مختلفة كذلك في ضوء الدّيون البيئيّة تجاهها.

إسمحوا لي أن أتوجّه إليكم، باسم البيت المشترك الّذي نعيش فيه، وكإخوة وأخوات، لكي نسأل أنفسنا: ما هو السّبيل للخروج من هذا الوضع؟ إنّ السّبيل الّذي تتبعونه في هذه الأيّام هو درب الجميع معًا، أيّ التّعدديّة. في الواقع "لقد أصبح العالم متعدّد الأقطاب وفي الوقت عينه معقَّدًا لدرجة أنهّ أصبح ضروريًّا وجود إطار مختلف لتعاون فعَّال. إذ لا يكفي أن نفكّر في توازن القوى، بل يجب إنشاء قواعد عالميّة وفعّالة". ويثير القلق في هذا المعنى أنّ ارتفاع درجة حرارة الكوكب يترافق بفتور عام في تعدّديّة الأطراف، وتزايد في عدم الثّقة بالمجتمع الدّوليّ، وفقدان "للوعي المشترك بأنّنا عائلة من الشّعوب". ولذلك من الأهمّيّة بمكان أن نعيد بناء الثّقة، أساس التّعدديّة. هذا الأمر يصلح للعناية بالخليقة كما للسّلام أيضًا: إنّها أكثر المواضيع إلحاحًا وهي مرتبطة ببعضها البعض. كَمْ من الطّاقات تَهدرها البشريّة في الحروب الكثيرة الدّائرة اليوم، كما هو الحال في إسرائيل وفلسطين، وفي أوكرانيا وفي مناطق عديدة من العالم: صراعات لن تَحِلَّ المشاكل، بل تزيدها! كَمْ من الموارد تُنفَق على الأسلحة، الّتي تدمّر الأرواح والبيت المُشترك! أُعيد إطلاق هذا الاقتراح: "لنؤسّس بالمال الّذي يُستخدَم في الأسلحة والنّفقات العسكريّة الأخرى، صندوقًا عالميًّا، من أجل القضاء على الجوع بشكل نهائيّ وتحقيق نشاطات تعزّز التّنمية المستدامة للبلدان الأشدَّ فقرًا، ومكافحة تغيّر المناخ.

إنَّ مهمّة هذا الجيل هي أن يصغي إلى الشّعوب والشّباب والأطفال، لكي يضع الأُسُس لتعدُّديّة أطراف جديدة. ولماذا لا نبدأ بالتّحديد من البيت المُشترك؟ إنَّ التّغيّرات المناخيّة تشير إلى ضرورةِ تغيير سياسيّ. لنخرجنَّ من قيود الخصوصيّات والقوميّات، لأنّها أنماط من الماضي. ولنعانق رؤية بديلة، ومشتركة ستسمح بارتداد إيكولوجيّ، لأنّه لا وجود لتغييرات دائمة بدون تغيّيرات ثقافيّة. وفي هذا الأمر أؤكّد التزامَ ودعم الكنيسة الكاثوليكيّة، النّاشطة بشكل خاصّ في التّربية والتّوعية على المُشاركة العامّة، كما في تعزيز أنماط الحياة، لأنّ المسؤوليّة هي مسؤوليّة الجميع ومسؤوليّة كلّ واحدٍ هي أساسيّة. أيّها الإخوة والأخوات، من الأهمّيّة بمكان أن يُصار إلى تغيير في المسيرة، لا يكون مجرّد تعديل جزئيّ للمسار، بل طريقة أسلوب جديد للمضيّ قدمًا معًا. إذ كانت اتّفاقيّة باريس قد طبعت في مسيرة مكافحة التّغيّر المناخيّ، الّذي افتُتِحَ في ريو دي جانيرو سنة ١٩٩٢ "بداية جديدة"، فعلينا الآن أن نعيد إطلاق المسيرة. علينا أن نُعطي علامة رجاء ملموسة. ليكن مؤتمر الأطراف هذا نقطة تحوّل: فيُظهر إرادة سياسيّة واضحة وملموسة، تحمل إلى تسريعٍ حاسمٍ للتّحوّل الإيكولوجيّ، من خلال أشكال يكون لها ميّزات ثلاث: أن تكون فعّالة، وإلزاميّة، وسهلة المراقبة. وتجد تحقيقها في أربع مجالات: كفاءة استخدام الطّاقة؛ المصادر المتجدّدة؛ القضاء على الوقود الأحفوريّ؛ التّربية على أنماط حياة أقلّ اعتمادًا على هذا الأخير.

من فضلكم: لنسر قدمًا ولا نرجعنَّ إلى الوراء. من المعروف أنّ مختلف الاتّفاقات والالتزامات الّتي تمّ التّعهّد بها "كان مستوى تنفيذها منخفضًا بسبب عدم إنشاء آليّات كافية للرّقابة والتّحقّق الدّوريّ والمعاقبة على عدم الامتثال". يتعلّق الأمر هنا بألّا تؤجلوا بعد الآن، وإنّما بأن تحقِّقوا لا أن تتمنّوا فقط خير أبنائكم ومواطنيكم وبلدانكم وعالمنا. كونوا أنتم صانعي سياسةٍ تقدّم إجابات ملموسة ومتماسكة، تُظهر نبالة المنصب الّذي تشغلونه، وكرامة الخدمة الّتي تؤدّونها. لأنّ هدف السّلطة هو الخدمة. ولا ينفعنا شيئًا أن نحافظ اليوم على سلطة سيتمُّ تذكُّرها في المستقبل لعدم قدرتها على التّدخّل عندما كان ذلك ملحًّا وضروريًّا. إنَّ التّاريخ سيشكركم على ذلك. وكذلك المجتمعات الّتي تعيشون فيها، والّتي يوجد فيها انقسام مشؤوم إلى "مشجّعين": بين الذذين يغالون في رؤية الآثار الكارثيّة للتّغيّرات المناخيّة وغير المبالين، بين دعاة حماية البيئة المتطرّفين ومنكري التّغيّر المناخيّ... من غير المجدي أن ندخل في هذه التّحالفات؛ وفي هذه الحالة، كما في قضيّة السّلام، هذا الأمر لا يؤدّي إلى أيّ علاج. لأنّ السّياسة الجيّدة هي العلاج: إذا جاء مثال على الواقعيّة والتّماسك من الأعلى، فإنّ القاعدة ستستفيد، حيث يلتزم الكثيرون، ولاسيّما الشّباب، في تعزيز العناية بالبيت المشترك.

لتكن سنة ٢٠٢٤ نقطة التّحوّل. وأودّ أن تكون هاجس خير حادثة وقعت في سنة ١٢٢٤. في تلك السّنة، ألّف القدّيس فرنسيس الأسيزيّ نشيد المخلوقات. وقد قام بذلك بعد ليلة قضاها في ألمٍ جسديّ، فيما كان قد أصبح أعمى تمامًا. بعد ليلة الجهاد هذه، الّتي ارتقت فيها نفسه بخبرة روحيّة فريدة، أراد أن يسبّح العَلِيّ على تلك المخلوقات الّتي لم يعد يراها، لكنّه كان يشعر أنّها إخوته وأخواته، لأنّها تنحدر من الآب عينه، ويتقاسمها مع الرّجال والنّساء الآخرين. وهكذا، قاده حسُّ أخوّة مُلهَم لأن يحوّل الألَم إلى تسبيح والتَّعب إلى التزام. بعد ذلك، أضاف آية سبّح الله فيها من أجل الّذين يغفرون، وقام بذلك لكي يُنهي- بنجاح!– خلافًا كان شكًّا وحجر عثرة بين رئيس المنطقة والأسقف. وأنا أيضًا، الّذي أحمل اسم فرنسيس، أريد أن أقول لكم بنبرة صلاة نابعة من القلب: لنترك الانقسامات وراءنا ولنوحّد القوى! ولنخرج بمعونة الله، من ليل الحروب والدّمار البيئيّ، لكي نحوّل المستقبل المشترك إلى فجرِ نورٍ جديد."