الفاتيكان
29 آذار 2021, 07:50

البابا فرنسيس في الشّعانين: إذا فقد الإيمان الدّهشة فإنّه يصبح أصمّ

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البابا فرنسيس قدّاس أحد الشّعانين وآلام الرّبّ في بازيليك القدّيس بطرس، دعا فيه المؤمنين إلى الدّخول في الدّهشة الّتي يثيرها الاحتفال اللّيتورجيّ هذا، فقال بحسب "فاتيكان نيوز":

"في كلّ عام، يثير هذا الاحتفال اللّيتورجيّ فينا موقفًا من الدّهشة: ننتقل من فرح استقبال يسوع الّذي يدخل أورشليم إلى ألم رؤيته محكومًا عليه بالموت والصّلب. إنّه موقف داخليّ سيرافقنا طوال الأسبوع المقدّس. لذلك دعونا ندخل في هذه الدّهشة.

يدهشنا يسوع على الفور. شعبه يستقبله بوقار، لكنّه يدخل أورشليم على جحش متواضع. شعبه ينتظر لعيد الفصح محرِّرَه القويّ، لكن يسوع يأتي ليُتمَّ الفصح بتضحيته. يتوقّع شعبه الاحتفال بالنّصر على الرّومان بالسّيف، لكن يسوع يأتي ليحتفل بانتصار الله بالصّليب. ماذا حدث لهؤلاء الأشخاص، الّذين تحوّلوا في غضون أيّام قليلة من التّهليل والهتاف ليسوع إلى صراخهم "اصلبه"؟ لقد كان هؤلاء الأشخاص يتبعون صورة للمسيح أكثر من المسيح. كانوا قد أُعجبوا بيسوع، لكنّهم لم يكونوا مستعدّين لكي يسمحوا له بأن يُدهشهم، لأنَّ الدّهشة تختلف عن الإعجاب. يمكن للإعجاب أن يكون دنيويًّا، لأنّه يبحث عن أذواق وتوقّعات خاصّة؛ أمّا الدّهشة، من ناحية أخرى، فتبقى منفتحة على الآخر وعلى حداثته. كثيرون اليوم أيضًا يُعجبون بيسوع: لقد تحدّث جيّدًا، أحبّ وغفر، ومثالُه غيَّر التّاريخ... لقد كانوا معجبين به، لكن حياتهم لم تتغيّر. لأنّ الإعجاب بيسوع لا يكفي. وإنّما ينبغي أن نتبعه في طريقه، ونسمح له بأن يُسائلنا: أيّ أن ننتقل من الإعجاب إلى الذّهول.

وما أكثر ما يثير الدّهشة في الرّبّ وفصحه؟ حقيقة أنّه يصل إلى المجد عبر درب الذّلّ. هو ينتصر بقبول الألم والموت الّذي نتجنّبه نحن، الخاضعين للإعجاب والنّجاح. أمّا يسوع-  قال لنا القدّيس بولس- "تَجرَّدَ مِن ذاتِه، [...] ووضَعَ نَفْسَه". وهذا أمر يُدهش: أن نرى الكلّيّ القدرة يتحوّل إلى لا شيء. أن نراه هو، الكلمة الّتي تعرف كلّ شيء، يعلّمنا بصمت على كرسيّ الصّليب. وأن نرى ملك الملوك عرشه الصّليب. ونرى إله الكون مجرّدًا من كلّ شيء. ونراه مُكلّلاً بالأشواك بدلاً من المجد. ونراه هو الصّلاح المتجسّد، يتعرّض للإهانة والدّوس. لماذا كلّ هذا الذّلّ؟ لماذا يا ربّ سمحتَ بأن يُصنع بك كلّ هذا؟

لقد فعل ذلك من أجلنا، لكي يلمس واقعنا البشريّ في عمقه، ولكي يعبر حياتنا بأسرها وكلّ شرورنا. لكي يقترب منّا ولا يتركنا وحدنا في الألم والموت. لكي يستعيدنا ولكي ينقذنا. لقد صعد يسوع على الصّليب لكي ينزل إلى آلامنا. واختبر أسوأ حالاتنا: الفشل، ورفض الجميع، وخيانة الّذين أحبّوه، وحتّى تخلِّى الله عنه. لقد اختبر في جسده تناقضاتنا الأكثر تمزيقًا، وهكذا افتداها وحوّلها. لقد اقتربت محبّته من ضعفنا، ووصلت إلى هناك حيث نشعر بالخجل الشّديد. والآن نحن نعلم أنّنا لسنا لوحدنا: إنَّ الله معنا في كلّ جرح وفي كلّ خوف: والكلمة الأخيرة ليست للشّرّ ولا للخطيئة. الله ينتصر، لكنَّ سُعفَة النّصر تمرُّ عبر خشبة الصّليب. لذلك تكون السُّعفَة والصّليب معًا.

لنطلب نعمة الدّهشة. إنَّ الحياة المسيحيّة بلا دهشة تُصبح رماديّة. كيف يمكننا أن نشهد لفرح لقاء يسوع ما لم نسمح بأن تفاجئنا يوميًّا محبّته المُدهشة، الّتي تغفر لنا وتجعلنا نبدأ من جديد؟ إذا فقد الإيمان الدّهشة فإنّه يصبح أصمّ: لا يشعر بروعة النّعمة، ولا يشعر بمذاق خبز الحياة والكلمة، ولا يدرك جمال الإخوَة وعطيّة الخليقة. في هذا الأسبوع المقدّس، لنرفع نظرنا إلى الصّليب لكي ننال نعمة الدّهشة. إذ كان ينظر إلى المصلوب كان القدّيس فرنسيس الأسيزيّ، يتعجّب لأنّ إخوته ما كانوا يبكون. ونحن، هل ما زلنا نتأثّر بمحبّة الله؟ لماذا لم نعد نعرف كيف نندهش أمامه؟ ربّما لأنّ إيماننا قد تآكل بسبب العادة. ربّما لأنّنا ننغلق في ندمنا ونسمح لعدم رضانا بأن يشلَّنا. ربّما لأنّنا فقدنا الثّقة في كلّ شيء ونعتقد حتّى بأنّنا مخطئون. لكن وراء هذه الـ"ربّما" هناك حقيقة أنّنا لسنا منفتحين على عطيّة الرّوح القدس، الّذي يمنحنا نعمة الدّهشة.

لننطلق مجدّدًا من الدّهشة؛ لننظر إلى المصلوب ولنقل له: "كم تحبّني يا ربّ! كم أنا ثمين بالنّسبة لك!". لنسمح ليسوع بأن يدهشنا لكي نعود إلى الحياة، لأنّ عظمة الحياة لا تكمن في الامتلاك وتأكيد الذّات، وإنّما في الاكتشاف بأنّنا محبوبون وفي جمال المحبّة. في المصلوب نرى الله مُهانًا، والقدير قد تحوّل إلى منبوذ ومنفي. وبنعمة الدّهشة نفهم أنّه من خلال قبول المنبوذين، ومن خلال الاقتراب من الّذين أذلّتهم الحياة، نحن نحبُّ يسوع: لأنّه موجود هناك، في الأخيرين وفي المرذولين. اليوم، مباشرة بعد موت يسوع، كشف لنا الإنجيل عن أجمل أيقونة للدّهشة. إنّه مشهد قائد المئة الّذي "لَمَّا رأَى أَنَّه لَفَظَ الرُّوحَ هكذا، قال: كانَ هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقًّا!". بأيّة طريقة رأى يسوع يموت؟ لقد رآه يموت حُبًّا. لقد تألّم، وكان مرهقًا، لكنّه استمرّ في الحبّ. ها هي الدّهشة أمام الله الّذي يعرف كيف يملأ حتّى الموت بالحبّ. في هذا الحبّ المجّانيّ والّذي لا سابق له، وجد قائد المئة الوثنيّ الله. كانَ هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقًّا! وبقوله هذا ختم الآلام. كثيرون قبله في الإنجيل، إذ أُعجبوا بيسوع لِمُعجزاته وآياته، اعترفوا أنّه ابن الله، لكن المسيح أسكتهم، لأنّه كان هناك خطر التّوقّف عند الإعجاب الدّنيويّ، عند فكرة إله يجب أن نعبُده ونخافه لأنّه قويّ ومخيف. أمّا الآن فلم يعد الأمر كذلك، تحت الصّليب لم يعُد هناك إمكانيّة لسوء الفهم والالتباس: لقد كشف الله عن نفسه وهو يحكم فقط بقوّة المحبّة العزلاء والسّاحرة.

واليوم أيضًا لا زال الله يذهل عقولنا وقلوبنا. لنسمح لهذه الدّهشة بأن تمتلكنا، ولننظر إلى المصلوب ولنقل له نحن أيضًا: "أنت ابنَ اللهِ حَقًّا. أنت إلهي"".