البابا فرنسيس في الدّنح: ليجعلنا الرّبّ أنوارًا تدلّ عليه على مثال مريم
وتخلّلت الذّبيحة الإلهيّة عظة للأب الأقدس قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه": هذه هي الشّهادة الّتي يقدّمها المجوس لسكّان أورشليم، ويعلنون لهم أنّ ملك اليهود قد وُلد.
يشهد المجوس أنّهم قد انطلقوا في مسيرة، وغيّروا مجرى حياتهم، لأنّهم رأوا نورًا جديدًا في السّماء. يمكننا إذًا أن نتوقّف للتّأمُّل حول هذه الصّورة فيما نحتفل بعيد ظهور الرّبّ في يوبيل الرّجاء، وأودّ أن أسلّط الضّوء على ثلاث خصائص للنّجم الّذي يخبرنا عنه الإنجيليّ متّى: إنّه منير، ومرئيّ للجميع، ويدلّ على مسيرة.
أوّلًا، يقول النّجم هو منير. كثير من الحكّام في زمن يسوع كانوا يسمّون أنفسهم "نجومًا" لأنّهم كانوا يشعرون بأهمّيّتهم وقوّتهم وشهرتهم. ومع ذلك، لم يكن نورهم- نور أحد منهم- هو الّذي كشف معجزة الميلاد للمجوس. لم يكن بريقهم، المصطنع والبارد، ونتيجة حسابات وألاعيب السّلطة، قادرًا على أن يجيب على حاجة الحداثة والرّجاء لهؤلاء الأشخاص الّذين يبحثون. بل فعل ذلك، نوع آخر من الّنور الّذي يرمز إليه النّجم الّذي يضيء ويدفئ فيما يحترق ويذوب. يحدّثنا النّجم عن النّور الوحيد الّذي يمكنه أن يدلّ الجميع على درب الخلاص والسّعادة: نور المحبّة. أوّلًا محبّة اللّه الّذي إذ صار إنسانًا وهب نفسه لنا مُضحِّيًا بحياته. ثمّ، بانعكاسه الّذي دُعينا نحن أيضًا به لكي نبذل أنفسنا في سبيل بعضنا بعضًا، فنصبح، بمعونته، علامة رجاء متبادلة حتّى في ليالي الحياة المظلمة. فكما أنّ النّجم، بإشراقه، قد قاد المجوس إلى بيت لحم، هكذا نحن أيضًا، بمحبّتنا، يمكننا أن نحمل إلى يسوع الأشخاص الّذين نلتقي بهم، ونجعلهم يتعرّفون، في ابن اللّه الّذي صار إنسانًا، على جمال وجه الآب وأسلوبه في الحبّ الّذي يقوم على القرب والرّحمة والحنان. ويمكننا أن نفعل ذلك بدون الحاجة إلى أدوات خارقة ووسائل متطوّرة وإنّما من خلال جعل قلوبنا منيرة بالإيمان، ونظراتنا سخيّة في الاستقبال، وتصرّفاتنا وكلماتنا أخويّة مفعمة باللّطافة والإنسانيّة. لذا، وفيما ننظر إلى المجوس الّذين فيما كانت أعينهم موجّهة إلى السّماء، كانوا يبحثون عن النّجم، لنطلب من الرّبّ أن نكون، لبعضنا البعض، أنوارًا تحمل إلى اللّقاء به.
وهكذا نأتي إلى الميزة الثّانية للنّجم: إنّه مرئيّ للجميع. إنَّ المجوس لم يتبعوا إرشادات شفرة سرّيّة، بل نجمًا رأوهه يسطع في السّماء. لقد لاحظوه؛ وآخرون، مثل هيرودس والكتبة، لم يتنبّهوا حتى لوجوده. ومع ذلك، فإنّ النّجم قد بقي هناك دائمًا، وفي متناول كلّ من يرفع نظره إلى السّماء، باحثًا عن علامة رجاء. وهذه أيضًا هي رسالة مهمّة: إنَّ اللّه لا يُظهر نفسه لمجموعات حصريّة أو لقلّة محظوظة، بل يقدم رفقته وإرشاده لكلّ من يبحث عنه بقلب صادق. لا بل غالبًا ما يستبق أسئلتنا الخاصّة، فيأتي ليبحث عنّا حتّى قبل أن نسأله. لهذا السّبب بالتّحديد، نصوّر في المغارة المجوس بصفات تعانق جميع الأعمار والأعراق- شابّ، بالغ، مسنّ، بملامح جسديّة لشعوب الأرض المختلفة– لكي يذكّروننا بأنّ اللّه يبحث عن الجميع دائمًا. وكم سيفيدنا أن نتأمّل في هذا الأمر اليوم، في عالم يبدو فيه الأشخاص والأمم، على الرّغم من أنّهم مزوّدين بوسائل اتّصال أكثر قوّة، قد أصبحوا أقلّ رغبة في فهم وقبول ولقاء بعضهم البعض في تنوّعهم!
إنّ النّجم، الّذي يقدّم نوره للجميع في السّماء، يذكّرنا بأنّ ابن اللّه، يأتي إلى العالم لكي يلتقي بكلّ رجل وامرأة على الأرض، مهما كانت المجموعة العرقيّة أو اللّغة أو الشّعب الّذي ينتمون إليه، وأنّه يسلِّمنا المهمّة الكونيّة عينها. أيّ إنّه يدعونا لكي نحظر جميع أشكال الانتقاء والتّهميش والرّفض للأشخاص، ونعزّز في أنفسنا وفي البيئات الّتي نعيش فيها ثقافة ضيافة قويّة، يتمُّ فيها استبدال أقفال الخوف والرّفض بفسحات مفتوحة للّقاء والإدماج والمشاركة، أماكن آمنة يجد فيها الجميع الدّفء والمأوى. هذا هو سبب وجود النّجم في السّماء: لا لكي يبقى بعيدًا وصعب المنال، بل على العكس لكي يكون نوره مرئيًّا للجميع، ولكي يصل إلى كلّ بيت ويتخطّى كلّ حاجز ويحمل الرّجاء إلى زوايا الكوكب البعيدة والمنسيّة. هو موجود في السّماء لكي يقول للجميع، بنوره السّخيّ، إنّ اللّه لا يحرم أحدًا منه ولا ينسى أحدًا. لأنّه أب وفرحه الأعظم هو أن يرى أبناءه يعودون إلى البيت، متّحدين، من جميع أنحاء العالم، وأن يراهم يبنون الجسور، ويمهّدون الدّروب، ويبحثون عن الضّالّين، ويحملون على أكتافهم الّذين يجدون صعوبة في السّير، لكي لا يبقى أحد خارجًا، ولكي يشارك الجميع في فرح بيته.
إنَّ النّجم يحدّثنا عن حلم اللّه: أن تشكّل البشريّة بأسرها، على غنى اختلافاتها، عائلة واحدة، وتعيش معًا في رخاء وسلام. وهذا الأمر يقودنا إلى الميزة الأخيرة للنّجم: وهي أنّه يدلُّ على المسيرة. وهذا أيضًا هو نقطة للتّفكير، لاسيّما في سياق السّنة المقدّسة الّتي نحتفل بها، والّتي يشكّل الحجّ إحدى ميزاتها. أضاف الأب
إنّ نور النّجم يدعونا لكي نقوم برحلة داخليّة، كما كتب القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، تُحرِّرُ قلوبنا من كلّ ما هو ليس محبّة، لكي "نلتقي بالمسيح بالكامل، ونعترف بإيماننا به وننال فيض رحمته". إنّ السّير معًا "هو سمة من يبحث عن معنى الحياة". ونحن، إذ ننظر إلى النّجم، يمكننا أيضًا أن نجدّد التزامنا بأن نكون رجال ونساء "الدّرب"، كما كان يُطلق على المسيحيّين في بدايات الكنيسة.
ليجعلنا الرّبّ، إذن، أنوارًا تدلّ عليه، على مثال مريم، أسخياء في العطاء، منفتحين في قبول بعضنا البعض، ومتواضعين في السّير معًا، لكي نتمكّن من أن نلتقي به، ونتعرّف عليه، ونعبده، وننطلق مجدّدًا منه متجدّدين، حاملين إلى العالم نور محبّته."