البابا فرنسيس في أربعاء الرّماد: يذكّرنا الرّماد بحقيقتنا
هكذا بدأت عظة البابا فرنسيس في قدّاس بداية الصّوم في أربعاء الرّماد، والّذي ترأّسه رئيس محكمة التّوبة الرّسوليّة الكاردينال أنجيلو دي دوناتيس، عصر الأربعاء، في بازيليك القدّيسة سابينا في روما، وقد قرأ خلاله العظة الّتي كان الحبر الأعظم قد حضّرها للمناسبة. وقد تابع قائلًا بحسب "فاتيكان نيوز": "أوّلًا، لنتذكّر. ننال الرّماد ونحن نحني رؤوسنا إلى الأسفل، وكأنّنا ننظر إلى أنفسنا، ونلج إلى أعماق ذواتنا. إنَّ الرّماد في الواقع يساعدنا لكي نتذكّر هشاشة حياتنا وضِعتها: نحن تراب، من التّراب خُلقنا وإلى التّراب سنعود. وما أكثر اللّحظات في حياتنا، سواء عندما ننظر إلى واقعنا الشّخصيّ أو إلى العالم من حولنا، الّتي ندرك فيها حقيقة ما يقوله المزمور: "وما الإنسان السّائر إلّا ظلّ وما الخيرات الّتي يكدِّسها إلّا هباء ولا يدري من يجمعها".
هذا ما تعلّمنا إيّاه خبرة الضّعف، الّذي نختبره في تعبنا، وفي ضعفنا الّذي علينا أن نواجهه، في المخاوف الّتي تسكننا، وفي الإخفاقات الّتي تحرقنا من الدّاخل، وفي تلاشي أحلامنا، وفي اكتشاف مدى زوال الأشياء الّتي نملكها. نحن مصنوعون من الرّماد والتّراب، ونلمس هشاشتنا بوضوح عندما نمرّ بخبرة المرض، أو الفقر، أو الألم الّذي يهجم علينا فجأة وعلى عائلاتنا. كذلك نتنبّه لضعفنا عندما نكتشف بأنّنا معرّضين، في الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة لعصرنا، لما يمكن تسميته بـ"الغبار الدّقيق" الّذي يلوّث العالم: الاستقطاب الإيديولوجيّ، منطق التّسلّط، عودة الأيديولوجيّات الهوياتيّة القديمة الّتي تكرّس استبعاد الآخر، استغلال موارد الأرض، العنف بجميع أشكاله، والحروب بين الشّعوب. جميع هذه الأمور هي "أتربة سامّة" تعكّر هواء كوكبنا، وتعيق التّعايش السّلميّ، بينما تتفاقم يومًا بعد يوم مشاعر الشّكّ والخوف من المستقبل داخلنا.
وفي النّهاية، تذكّرنا حالة الهشاشة هذه بمأساة الموت، ذلك الواقع الّذي تحاول مجتمعاتنا القائمة على المظاهر أن تتجاهله أو تطرده من لغتها، لكنّه يفرض نفسه علينا كحقيقة لا مفرّ منها، كعلامة على هشاشة حياتنا وقصرها. وهكذا، رغم الأقنعة الّتي نرتديها والحِيَل الّتي نبتكرها لكي نُلهي أنفسنا، يذكّرنا الرّماد بحقيقتنا. وهذا الأمر يفيدنا، فهو يعيدنا إلى حجمنا الحقيقيّ، ويخفّف من حدّة نرجسيّتنا، ويعيدنا إلى الواقع، ويجعلنا أكثر تواضعًا وأكثر استعدادًا لخدمة بعضنا البعض: لا أحد منّا هو الله، وإنّما نحن جميعنا في مسيرة.
لكن الصّوم هو أيضًا دعوة لكي نعيد إحياء الرّجاء فينا. فإذا كنّا ننال الرّماد برأس منخفض لكي نتذكّر ما نحن عليه، فإنّ زمن الصّوم لا يريد أن يتركنا ورؤوسنا منحنية، بل يحثُّنا لكي نرفعها نحو ذاك الّذي قام من أعماق الموت، ويجذبنا معه من رماد الخطيئة والموت إلى مجد الحياة الأبديّة. لذلك فالرّماد يذكّرنا بالرّجاء الّذي دُعينا إليه، لأنّ يسوع، ابن الله، امتزج بتراب الأرض ورفعه إلى السّماء. نزل في أعماق هذا التّراب، وإذ مات من أجلنا صالحنا مع الآب، كما سمعنا من الرّسول بولس: "ذاك الّذي لم يعرف الخطيئة جعله الله خطيئة من أجلنا".
أيّها الإخوة والأخوات، هذا هو الرّجاء الذي يحيي الرمّاد الّذي نحن عليه. وبدون هذا الرّجاء، نبقى خاضعين لهشاشة حالتنا البشريّة، وعندما نواجه الموت، نغرق في الحزن واليأس، فنفكّر كما يفكّر الجاهلون: "إِنَّ حَيَاتَنَا قَصِيرَةٌ شَقِيَّةٌ، وَلَيْسَ لِمَمَاتِ الإِنْسَانِ مِنْ دَوَاءٍ... فَإِذَا انْطَفَأَتْ عَادَ الْجِسْمُ رَمَادًا، وَانْحَلَّ الرُّوحُ كَنَسِيمٍ رَقِيقٍ". لكن رجاء الفصح الّذي نسير نحوه يعضدنا في ضعفنا، ويطمئننا بمغفرة الله، ويفتحنا، حتى وسط رماد الخطيئة، على باب الاعتراف الفرح بالحياة: "أنا أعلم أنّ فاديَّ حيٌّ، وأنّه في النّهاية سيقوم على التّراب!". لنتذكّر هذا جيّدًا: "الإنسان هو تراب وإلى التّراب سيعود، لكنّه تراب ثمين في عيني الله، لأنّ الله خلقه ليكون له نصيب في الخلود".
أيّها الإخوة والأخوات، مع الرّماد على رؤوسنا، نسير نحو رجاء الفصح. لنتب إلى الله، ولنعد إليه بكلّ قلوبنا، ولنضعه مجدّدًا في محور حياتنا، لكي تستنير ذكرى ما نحن عليه- هَشّون وفانون كرمادٍ يبعثره الرّيح- برجاء القائم من بين الأموات. لنوجّه حياتنا نحوه ولنصبح علامة رجاء للعالم: لنتعلّم من الصّدقة كيف نخرج من ذواتنا لكي نشارك احتياجات بعضنا البعض، ونغذّي الرّجاء في عالم أكثر عدلًا؛ لنتعلّم من الصّلاة كيف نكتشف أنّنا معوزون إلى الله، أو كما قال جاك ماريتان، "متسوّلو السّماء"، لكي نغذّي الرّجاء بأنّ أبًا ذراعيه مفتوحتين ينتظرنا رغم ضعفنا عند نهاية حجّنا الأرضيّ، لنتعلّم من الصّوم أنّنا لا نعيش فقط لنُشبع حاجاتنا الجسديّة، وإنّما أنّنا جائعون إلى المحبّة والحقّ، ولا شيء سوى محبّة الله ومحبّتنا لبعضنا البعض يمكنه أن يُشبعنا حقًّا ويجعلنا نرجو في مستقبل أفضل."
وإختتم الأب الأقدس عظته راجيًا أن: "يرافقنا على الدّوام اليقين بأنّ منذ أن جاء الرّبّ إلى رماد هذا العالم، "صارت قصّة الأرض قصّة السّماء، وأنَّ الله والإنسان مرتبطان بمصير واحد"، وأنّه سيمحو رماد الموت إلى الأبد لكي يجعلنا نسطع بحياة جديدة. بهذا الرّجاء في قلوبنا، لننطلق في المسيرة، ولنسمح لله بأن يصالحنا."