البابا فرنسيس عزف موسيقى الإيمان في لاتفيا وغادر
وفي كلمته، عبّر البابا عن سروره بهذا اللّقاء كمسيرة من الاحترام والتّعاون والصّداقة بين مختلف الكنائس الّتي تمكّنت من تحقيق الوحدة والمحافظة على غناها وخصوصيّاتها. وسأل الله أن يجعل من جميع الحاضرين
صانعين للوحدة وسط جماعاتهم كي لا تتحوّل الاختلافات إلى انقسامات.
وحذّر الأب الأقدس، بحسب "فاتيكان نيوز"، من مغبّة "الانتقال من ساكن مقيم إلى سائح على صعيد الإيمان أيّ عندما يتحوّل الإيمان المسيحيّ إلى أداة من الماضي، وينغلق داخل جدران الكنائس"، مذكّرًا بضرورة ألّا يبقى الإيمان مخبّأً، بل يجب أن يتردّد صداه في المجتمع كي يتأمّل الكلّ بجمال هذا الإيمان ويتمتّعوا بنوره. وشدّد على أن يستمرّ عزف موسيقى الإيمان والإنجيل "في بيوتنا وساحاتنا وأماكن العمل والسّياسة والاقتصاد، كي نتابع النّضال في سبيل كرامة كلّ رجل وامرأة بغض النّظر عن الانتماء. وعندما تتوقّف موسيقى الإنجيل عن العزف ينغلق الإنسان في الوحدة والعزلة. وهذا ما يحصل مع المسنّين المتروكين والشّبّان الّذين يعيشون بدون نقاط مرجعيّة وفرص للمستقبل".
هذا وأشار إلى أنّ السّير على درب الوحدة يتطلّب الكفّ عن النّظر إلى جراحات الماضي، وعدم الاستسلام للخوف مؤكّدًا أنّ الرّبّ سيعطي القوّة اللّازمة لجعل من كلّ زمان فرصة للشّركة والمصالحة مع الله والأخوة، مؤكّدًا أنّ روح الرّبّ كفيلة أن تحرّكهم من أجل هذه الرّسالة المسكونيّة.
أمًّا عصرًا فحمل البابا فرنسيس صلواته إلى أقدام مريم العذراء في مزار أمّ الله- أغلونا، مختتمًا بذلك زيارته الرّسوليّة إلى لاتفيا بقدّاس إلهيّ. وللمناسبة ألقى عظة قال فيها:
"يمكننا أن نقول أنَّ ما يرويه القدّيس لوقا في بداية كتاب أعمال الرّسل يتكرّر اليوم هنا: نحن متّحدون معًا ونصلّي برفقة مريم أمّنا.
ينقل الإنجيليّ يوحنّا حدثين فقط تقاطعت فيهما حياة يسوع وحياة أمّه: عرس قانا الجليل وذلك الّذي سمعناه الآن في الإنجيل: مريم عند أقدام الصّليب. أوّل ما يسلّط عليه الإنجيليّ الضّوء هو أنّ مريم قد "وقفت ثابتة" بالقرب من ابنها. لم يكن وقوفًا بسيطًا بل كانت "مُسمَّرة" بثبات عند أقدام الصّليب تعبِّر بجسدها أنّ لا شيء ولا أحد بإمكانه أن يبعدها عن ذلك المكان. وبالتّالي تظهر مريم هكذا: بالقرب من الّذين يتألّمون والّذين يهرب منهم العالم بأسره، بالقرب من الّذين يُحكم عليهم من قبل الجميع ويتمُّ ترحيلهم.
تُظهر لنا مريم أيضًا أسلوبًا للوقوف بالقرب من هذه الوقائع والّذي ليس مجرّد زيارة قصيرة، وبالتّالي على الّذين يعانون بسبب واقع ألم معيّن أن يشعروا بأنّنا بقربهم وبشكل ثابت؛ يمكن لجميع المهمّشين في المجتمع أن يختبروا هذه الأمّ القريبة لأنّه في من يتألّم تستمرّ جراح ابنها يسوع المفتوحة. هذا ما تعلَّمته عند أقدام الصّليب؛ ونحن أيضًا مدعوّون لنلمس آلام الآخرين. لنذهب للقاء شعبنا لنعزّيه ونرافقه، ولا نخافنَّ من اختبار قوّة الحنان ومن أن نصرف حياتنا في سبيل الآخرين.
دعا يسوع مريم لتقبل التّلميذ الحبيب كابنٍ لها، ويقول لنا النّصّ إنّهما كانا معًا لكن يسوع قد تنبّه أنّ هذا الأمر لا يكفي ما لم يقبل أحدهما الآخر. لأنّه يمكننا أن نكون بالقرب من العديد من الأشخاص بدون أن نقبل ونمارس قبول الآخر المحبّ. كم من الأزواج يمكنهم أن يخبروا قصّة كونهما قريبين من بعضهما البعض بدون أن يكونا معًا؛ كم من الشّباب يشعرون بألم هذا البعد إزاء البالغين؛ كم من المسنّين يشعرون بأنّه تتمُّ رعايتهم ببرودة بدون أن يتمَّ قبولهم والاعتناء بهم بمحبّة.
صحيح أنّ انفتاحنا على الآخرين قد سبّب لنا أحيانًا ألمًا كبيرًا؛ كما هو صحيح أيضًا أن واقعنا السّياسيّ وتاريخ النّزاع بين الشّعوب لا يزال حديثًا. لكنّ مريم تظهر كامرأة منفتحة على المغفرة، قادرة على أن تطرح جانبًا الحقد وعدم الثّقة، ولا تتذمّر حول ما كان سيحصل لو أنَّ أصدقاء ابنها وكهنة شعبها والحكّام قد تصرّفوا بشكل مختلف. إنّ المطران سلوسكان الّذي دُفن هنا كتب لأهله بعد أن تمَّ اعتقاله وإبعاده: "أسألكم من أعماق قلبي: لا تسمحوا للانتقام أو الغضب بأن يقيما في قلوبكم. إن سمحنا لهما بذلك فلن نكون مسيحيّين حقيقيّين وإنّما مجرّد أشخاص متعصِّبين". وبالتّالي وفي زمن نرى فيه عودة ذهنيّات تحثّنا على عدم الثّقة بالآخرين تدعونا مريم وتلاميذ هذه الأرض لكي نقبل الآخر ونراهم مجدّدًا على الأخ والأخوّة الشّاملة.
تظهر مريم أيضًا كالمرأة الّتي تسمح بأن يتمَّ استقبالها والّتي تقبل بتواضع أن تصبح جزءًا من خاصّة التّلميذ. في ذلك العرس الّذي بقي بدون خمر، مع خطر أن ينتهي مليئًا بالطّقوس وفارغًا من الحبّ والفرح أمرت مريم الخدم بأن يفعلوا ما يقوله لهم. والآن كتلميذة طائعة تسمح بأن يتمَّ استقبالها، وتنتقل وتتأقلم مع أسلوب ووتيرة الشّباب. عندما نسمع بإيمان وصيّة أن نستقبل الآخر ونسمح له بأن يستقبلنا يصبح من الممكن أن نبني الوحدة في الاختلاف لأنّ الفوارق لم تعد قادرة على أن توقفنا أو تقسّمنا بل أصبحنا قادرين على النّظر أبعد وعلى رؤية الآخرين بكرامتهم الأعمق كأبناء للآب عينه.
في هذه الإفخارستيّا، كما في كلِّ إفخارستيا، نتذكّر ذلك اليوم. وعند أقدام الصّليب تذكّرنا مريم بفرح أنّنا أصبحنا أبناءها، ويدعونا ابنها يسوع لنأخذها إلى بيوتنا ونضعها في محور حياتنا. هي تريد أن تمنحنا شجاعتها لنقف بثبات؛ وتواضعها الّذي يسمح لها بأن تتأقلم في كلّ مرحلة من التّاريخ؛ وترفع صوتها لكي وبدءًا من هذا المزار نلتزم جميعًا بالاستقبال بدون تمييز ولكي يعرف جميع سكّان لاتفيا أنّنا مستعدّون لتفضيل الأشدّ فقرًا وإنهاض الّذين سقطوا واستقبال الآخرين كما هم عندما يمثلون أمامنا.