البابا فرنسيس: الميلاد هو انتصار التّواضع على الكبرياء
"بعد ستّة أيّام سيأتي عيد الميلاد وتذكّرنا الأشجار والزّينة والأضواء في كلّ مكان أنَّه سيكون هناك عيد هذه السّنة أيضًا؛ فيما تدعونا الإعلانات لنفاجئ بعضنا البعض ونتبادل على الدّوام الهدايا الجديدة؛ ولكنّني أتساءل: هل هذا هو العيد الّذي يرضي الله؟ ما هو الميلاد الّذي يريده، ما هي الهدايا وما هي المفاجآت الّتي يريدها؟
لننظر إلى أوّل عيد ميلاد في التّاريخ لنكتشف ذوق الله. لقد كان ذلك الميلاد الأوّل مليئًا بالمفاجآت. نبدأ مع مريم الّتي كانت مخطوبة ليوسف ومن عذراء أصبحت أمّ؛ ونتابع مع يوسف الّذي دُعي ليكون أبًا لابن ليس ابنه. ابن يصل في وقت غير ملائم، أيّ عندما كان يوسف ومريم لا يزالان مخطوبان وبحسب الشّريعة لم يكن بإمكانهما أن يتساكنا. إزاء الفضيحة، كان ذلك الزّمن يدعو يوسف ليطلّق مريم وينقذ سمعته ولكنّه بالرّغم من حقّه في فعل ذلك يفاجئنا: لكي لا يؤذي مريم يفكّر أن يطلّقها بالسّرّ معرّضًا سمعته للخطر. ولكن نجد من ثمَّ مفاجأة أخرى: يغيّر له الله في الحلم مخطّطاته ويطلب منه أن يأخذ مريم إلى بيته. وبعد ولادة يسوع، وفيما كان لديه مشاريعه الخاصّة للعائلة، كلّمه الله مجدّدًا في الحلم وقال له أن يقوم وينطلق إلى مصر. فالميلاد إذًا يحمل تغيّرات حياة غير متوقَّعة، وإن أردنا أن نعيش الميلاد علينا أن نفتح قلوبنا ونستعدَّ للمفاجآت، أيّ إلى تغيير حياة غير متوقّع.
لكن وفي ليلة الميلاد، تصل المفاجأة الكبرى: العليّ هو طفل صغير. الكلمة الإلهيّ هو رضيع غير قادر على الكلام. ولاستقبال المخلّص لم تكن هناك سلطات الزّمان أو المكان أو السّفراء: لا! وغنمًا رعاة بسطاء فاجأهم الملائكة فيما كانوا يعملون في اللّيل فذهبوا مسرعين. من كان ليتوقّع هذا الأمر؟ الميلاد هو الاحتفال بإبداع الله أو بالأحرى الاحتفال بإله مُبدع يقلب منطقنا وانتظاراتنا. وبالتّالي فالاحتفال بالميلاد هو أن نستقبل على الأرض مفاجآت السّماء، ولذلك لا يمكننا أن نعيش "بشكل أرضيّ" بعد أن حملت السّماء حداثتها إلى العالم. إنَّ الميلاد يدشِّن مرحلة جديدة، حيث لا تكون فيها الحياة برنامجًا بل تبذل، وحيث لا يعيش المرء من أجل ذاته وعلى أساس ما يحلو له ويروقه وإنّما لأجل الله ومع الله؛ لأنَّه انطلاقًا من الميلاد يصبح الله "الله-معنا!" وبالتّالي فعيش الميلاد هو أن نسمح لحداثته الرّائعة أن تهزّنا. إنّ ميلاد يسوع لا يقدّم دفء المدفئة المريح وإنّما الرّعشة الإلهيّة الّتي تهزُّ التّاريخ. الميلاد هو انتصار التّواضع على الكبرياء، والبساطة على الثّراء، والصّمت على الصّخب.
إنّ الاحتفال بالميلاد هو التّشبّه بيسوع الّذي أتى من أجلنا نحن المعوزين، والنّزول نحو من هم بحاجة إلينا. وهو التّشبّه بمريم والثّقة، بالطّاعة لله حتّى بدون أن نفهم ما سيفعله. الاحتفال بالميلاد هو التّشبّه بيوسف فنقوم لنحقّق ما يريده الله حتّى وإن لم يكن بحسب مخطّطاتنا. إنّ القدّيس يوسف لمدهش: ففي الإنجيل هو لا يتكلّم أبدًا والرّبّ يكلّمه في الصّمت وفي الحلم بالتّحديد. الميلاد هو أن نفضّل صوت الله الصّامت على ضجيج الاستهلاك. فإن عرفنا كيف نقف بصمت أمام المغارة فسيكون الميلاد مفاجأة بالنّسبة لنا نحن أيضًا وليس مجرّد أمر رأيناه سابقًا.
يمكننا أن نخطئ في العيد ونفضِّل أمور الأرض التّقليديّة على حداثة السّماء. إذا بقي عيد الميلاد مجرّد عيد تقليديّ جميل، نكون نحن محوره لا الله فسيكون فرصة قد أضعناها. من فضلكم لا نحوِّلنَّ عيد الميلاد إلى أمر دنيويّ! لا نضعنَّ صاحب العيد على حدى كما حصل في ذلك الوقت: "جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه" (يوحنّا ١، ١١). منذ أوّل إنجيل في زمن المجيء حذّرنا الرّبّ وطلب منّا ألّا تُثقِّلنا "القُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا" (لوقا ٢١، ٣٤). خلال هذه الأيّام ننهمك أكثر من أيّ فترة أخرى خلال السّنة. ولكنّنا بهذه الطّريقة نقوم بعكس ما يطلبه منّا يسوع، ونضع اللّوم على الأمور العديدة الّتي تملأ أيّامنا والعالم الّذي يسير مسرعًا، ومع ذلك فيسوع لم يضع اللّوم على العالم، بل طلب منّا ألّا نسمح له أن يسحبنا وأن نسهر مُواظِبينَ على الصَّلاة.
بالتّالي سنكون في الميلاد، إن أعطينا مجالاً للصّمت على مثال يوسف، وإن قلنا لله على مثال مريم "هاءنذا"، وإن كنّا على مثال يسوع قريبين من مَن هو وحيد؛ وإن خرجنا على مثال الرّعاة من حظائرنا لنكون مع يسوع. سنكون في الميلاد إن وجدنا النّور في مغارة بيت لحم الفقيرة. لن نكون بالميلاد إن بحثنا عن أنوار العالم وامتلأنا بالهدايا والمآدب بدون أن نساعد أقلّه فقيرًا واحدًا يشبه الله، لأنّ الله قد أتى فقيرًا في الميلاد.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أتمنّى لكم ميلادًا مجيدًا غنيًّا بمفاجآت يسوع! قد تبدو ربّما مفاجآت مزعجة ولكنّها ما يريده الله؛ فإن قبلناها فسنكون قد قدّمنا لأنفسنا مفاجأة رائعة. إنّ كلّ فرد منّا يحمل في قلبه القدرة على الاندهاش، لنسمح إذًا ليسوع أن يفاجئنا في هذا الميلاد!".