البابا فرنسيس: التّواضع الحقيقيّ هو ألّا ينظر المرء إلى نفسه وإنّما إلى الله والآخرين
وقبل الصّلاة، ألقى الأب الأقدس كلمة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "يُدخلنا الإنجيل الّذي تقدّمه لنا اللّيتورجيا اليوم، عيد الحبل الطّاهر بسيّدتنا الطّوباويّة مريم البتول، إلى منزلها في النّاصرة، حيث نالت إعلان الملاك. داخل جدران بيته يظهر الإنسان على حقيقته أفضل من أيّ مكان آخر. وفي هذه الحميميّة البيتيّة، يعطينا الإنجيل تفصيلاً يُظهر جمال قلب مريم.
يدعوها الملاك "ممتلئة نعمة". وإذا كانت ممتلئة نعمة، فهذا يعني أنّ العذراء مريم هي خالية من الشّرّ، هي بلا خطيئة، وبلا دنس. الآن، إزاء هذا السّلام- كما يقول النّصّ- داخَلَ مريم اضطرابٌ شَديدٌ. هي لم تندهش وحسب بل اضطربت أيضًا. قد يؤدّي تلقّي التّحيّات والتّكريم والثّناء في بعض الأحيان إلى إثارة الكبرياء والتّعجرف. لنتذكّر أنّ يسوع لم يكن رقيقًا مع الّذين يذهبون بحثًا عن التّحيّات في السّاحات، والإطراء، ويسعون لكي يراهم النّاس. أمّا مريم، فلا ترفع نفسها بل تضطرب؛ وبدلاً من تتنعّم شعرت بالدّهشة، لقد بدت تحيّة الملاك بالنّسبة لها أكبر منها. لماذا؟ لأنّها تشعر أنّها صغيرة في داخلها، وهذا الصّغر وهذا التّواضع يجذب نظر الله.
وهكذا نرى داخل جدران بيت النّاصرة سمة رائعة لقلب مريم، الّتي إذ نالت أسمى المجاملات، اضطربت لأنّها لم يكُن بإمكانها أن تنسُب إلى نفسها ما قد سمِعت أنّه قد وُجِّه إليها. إنَّ مريم في الواقع، لا تنسب إلى نفسها أيّ امتيازات، ولا تدَّعي أيّ شيء، ولا تنسب شيئًا إلى استحقاقها. لا ترضى بنفسها ولا ترفع نفسها؛ لأنّها بتواضعها تعرف أنّها تنال كلّ شيء من الله، وبالتّالي فهي متحرّرة من نفسها وموجّهة نحو الله والآخرين. إنَّ مريم البريئة من الدّنس لا تنظر إلى نفسها. هذا هو التّواضع الحقيقيّ: ألا ينظر المرء إلى نفسه وإنّما إلى الله والآخرين.
لنتذكّر أن هذا الكمال لمريم، الممتلئة نعمة، أعلنه الملاك داخل جدران بيتها: لا في السّاحة الرّئيسيّة في النّاصرة، وإنّما هناك، في الخفاء، في التّواضع الأكبر. في ذلك البيت الصّغير في النّاصرة، كان ينبض أكبر قلب حصلت عليه خليقة أبدًا. أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، هذا خبر رائع بالنّسبة لنا! لأنّه يخبرنا أنّ الرّبّ، لكي يصنع العظائم، لا يحتاج إلى وسائل عظيمة وقدراتنا السّامية، وإنّما إلى تواضعنا، ونظرتنا المنفتحة عليه وعلى الآخرين. بذلك الإعلان، داخل الجدران الفقيرة لبيت صغير، غيّر الله التّاريخ. واليوم أيضًا هو يرغب في أن يصنع أشياء عظيمة معنا في حياتنا اليوميّة: في العائلة، في العمل، وفي البيئات اليوميّة. هناك، وأكثر من أحداث التّاريخ العظيمة، تحبّ نعمة الله أن تعمل. لكن، أتساءل، هل نؤمن بذلك؟ أم أنّنا نعتقد أنّ القداسة هي يوتوبيا، أمر يخصُّ فقط المعنيّين بالموضوع، أو وهم تقيّ لا يتوافق مع الحياة العاديّة؟
لنطلب من العذراء نعمة: أن تحرّرنا من الفكرة المضلّلة بأنّ الإنجيل هو أمر والحياة هي أمر آخر، وأن تُشعل فينا الحماس لمثال القداسة، الّتي ليست مسألة بطاقات مقدّسة وصور قدّيسين صغيرة، وإنّما أن نعيش كلّ يوم ما يحدث لنا بتواضع وفرح، متحرّرين من أنفسنا، وأعيننا موجّهة نحو الله والقريب الّذي نلتقي به. لا نفقدنَّ الشّجاعة لأنَّ الرّبّ قد أعطانا جميعًا القدرة لكي ننسج القداسة في حياتنا اليوميّة! وعندما يساورنا الشّكّ بأنّنا لن ننجح بذلك، والحزن لأنّنا لسنا ملائمين لها، لنسمح بأن تنظر إلينا عينا العذراء مريم الرّحيمتين، لأنّه ما من أحدٍ طلب معونتها والتمس شفاعتها وعاد خائبًا!".
بعد تلاوة صلاة التّبشير الملائكيّ، حيا البابا فرنسيس المؤمنين المحتشدين في ساحة القدّيس بطرس، وتحدّث إليهم عن رحلته إلى قبرص واليونان، وقال: "أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لقد عدت منذ يومين من رحلتي إلى قبرص واليونان. أشكر الرّبّ على هذا الحجّ، وأشكركم جميعًا على الصّلاة الّتي رافقتني، كما أشكر سكّان هذين البلدين العزيزين، مع سلطاتهم المدنيّة والدّينيّة، على المحبّة واللّطف اللّذين استقبلوني بهما. وبالتّالي أجدّد شكري للجميع.
قبرص هي لؤلؤة في البحر الأبيض المتوسّط، لؤلؤة ذات جمال نادر، لكنّها تحمل مطبوعًا جرح الأسلاك الشّائكة، وألم الجدار الّذي يقسمها. لقد شعرت في قبرص بأنّني في بيتي، ووجدت في الجميع إخوة وأخوات لي. أحتفظ بكلّ لقاء في قلبي، لاسيّما بالقدّاس في استاد نيقوسيا. لقد أثّر فيّي أخي الأرثوذكسيّ العزيز خريزوستوموس عندما تحدّث إليّ عن الكنيسة الأمّ: كمسيحيّين نحن نسير على دروبٍ مختلفة، ولكنّنا أبناء كنيسة يسوع، الّتي هي أمّ وترافقنا، وتحمينا، وتجعلنا نسير قدمًا جميعنا كإخوة. أمنيتي لقبرص هي أن تكون على الدّوام مختبرًا للأخوة، حيث يسود اللّقاء على النّزاع، وحيث يتمّ استقبال الأخ، لاسيّما عندما يكون فقيرًا، ومهمَّشًا، ومهاجرًا. أكرّر أنّه أمام التّاريخ، وأمام وجوه المهاجرين، لا يمكننا أن نسكت، ولا يمكننا أن نلتفت إلى الجهة الأخرى.
في قبرص كما في لسبوس تمكّنت من رؤية هذا الألم في العيون: من فضلكم، لننظر في عيون الأشخاص المهمّشين الّذين نلتقي بهم ولنسمح بأن تحرّكنا وجوه الأطفال، أبناء المهاجرين اليائسين. ولنسمح لألمهم بأن يحفر في داخلنا لكي نرُدَّ على لامبالاتنا؛ ولننظر إلى وجوههم، لكي ننهض من سبات العادة!
أفكّر من ثمَّ بامتنان باليونان. هناك أيضًا تلقّيت استقبالاً أخويًّا. لقد شعرت في أثينا أنّني منغمس في عظمة التّاريخ، وفي ذاكرة أوروبا: الأنسنة، والدّيمقراطيّة، والحكمة، والإيمان. هناك أيضًا اختبرتُ الدّفع الرّوحيّ للعيش معًا: في اللّقاء مع الأخوة الأساقفة والجماعة الكاثوليكيّة، في القدّاس الاحتفاليّ، الّذي احتفلنا به في يوم الرّبّ، ثمّ مع الشّباب الّذين قدِموا من مناطق كثيرة، وبعضهم من مناطق بعيدة جدًّا لكي يعيشوا ويتقاسموا فرح الإنجيل. ومرّة أخرى، عشتُ عطيّة معانقة رئيس الأساقفة الأرثوذكسيّ العزيز إيرونيموس: الّذي استقبلني أوّلاً في بيته وفي اليوم التّالي جاء لزيارتي. أحفظ هذه الأخوَّة في قلبي، وأوكل إلى والدة الله القدّيسة العديد من بذار اللّقاء والرّجاء الّتي زرعها الرّبّ في هذا الحجّ. وأسألكم أن تواصلوا الصّلاة لكي تنمو هذه البذار بالصّبر وتُزهر في الثّقة.
تُختتم اليوم السّنة المكرّسة للقدّيس يوسف شفيع الكنيسة الجامعة. وبعد غد، العاشر من كانون الأوّل (ديسمبر)، سيُختتم يوبيل العذراء سيّدة لوريتو. لتستمرّ نعمة هذه الأحداث في العمل في حياتنا وجماعاتنا. ولترشدنا العذراء مريم والقدّيس يوسف على درب القداسة!".