أوروبا
14 أيلول 2021, 11:50

البابا فرنسيس: الإيمان لا ينتشر بقوّة العالم وإنّما بحكمة الصّليب

تيلي لوميار/ نورسات
في ساحةMestská športová hala في بريشوف- سلوفاكيا، ترأّس البابا فرنسيس الذّبيحة الإلهيّة، بحسب الطّقس البيزنطيّ للقدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ.

وللمناسبة ألقى البابا عظة قال فيها "بحسب "فاتيكان نيوز": "لقد أعلن القدّيس بولس: "إِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب، قُدرَةُ اللهِ وحِكمَةُ الله". مِن ناحية أخرى، لا يُخفي الرّسول أنّ الصّليب، في نظر الحكمة البشريّة، يمثّل شيئًا مختلفًا تمامًا: إنّه "عِثار" و"حَماقة". كان الصّليب أداةً للموت، ومع ذلك منه جاءت الحياة. لقد كان شيئًا لا يرغب أحد في أن ينظر إليه، ومع ذلك أظهر لنا جمال محبّة الله. ولهذا يكرّمه شعب الله المقدّس وتحتفل به الّليتورجيا في عيد اليوم. يأخذنا إنجيل القدّيس يوحنّا بيدنا ويساعدنا لكي ندخل في هذا السّرّ. في الواقع، كان الإنجيليّ هناك، عند أقدام الصّليب. كان يتأمّل يسوع، ميتًا، معلّقًا على الخشبة، وكتب: "والَّذي رأَى شَهِد". إنَّ القدّيس يوحنّا قد رأى وشهد.

أوّلاً هناك الرّؤية. ولكن ماذا رأى يوحنّا تحت الصّليب؟ لقد رأى بالتّأكيد ما رآه الآخرون: يسوع، البريء والصّالح، يموت بوحشيّة بين مُجرِمَينِ اثنين. إنّه أحد أشكال الظّلم العديدة، وإحدى التّضحيات الدّمويّة العديدة الّتي لا تغيّر التّاريخ، والدّليل الألف على أنّ مسار الأحداث في العالم لا يتغيّر: يتمّ التّخلّص من الصّالحين، فيما ينتصر الأشرار ويزدهرون. إنَّ الصّليب في نظر العالم هو إخفاق. ونحن أيضًا قد نخاطر في أن نتوقّف عند هذه النّظرة الأولى السّطحيّة، وألّا نقبل منطق الصّليب، وألّا نقبل أن يخلّصنا الله إذ يسمح بأن ينهال عليه شرّ العالم. وألّا نقبل، حتّى بالكلمات، الإله الضّعيف والمصلوب، ونحلم بإله قويّ ومُنتصر. إنّها تجربة كبيرة. كم من مرّة نطمح إلى مسيحيّة صنعها منتصورن، وإلى مسيحيّة مُظفَّرة لها شأن وأهمّيّة، وتَلقَى المجد والتّكريم. لكن، المسيحيّة من دون الصّليب هي دنيويّة وعقيمة.

إنّ القدّيس يوحنّا قد رأى في الصّليب عمل الله. لقد رأى مجد الله في المسيح المصلوب. ورأى أنّه، على الرّغم من المظاهر، هو ليس خاسرًا، ولكنّه الله الّذي يقدّم نفسه طواعيّة من أجل كلّ إنسان. لماذا فعل ذلك؟ كان بإمكانه أن يحفظ حياته، وكان بإمكانه أن يبقى بعيدًا عن تاريخنا البائس والقاسي. ولكنّه أراد أن يدخل فيه، وأن يغوص فيه. لهذا اختار الدّرب الأصعب: الصّليب. لكي لا يكون هناك على الأرض شخص يائس لا يمكنه أن يلتقي به، حتّى هناك، في الضّيق، وفي الظّلام، وفي الخذلان، وفي عار شقائه وأخطائه. هناك بالتّحديد، حيث نعتقد أنّه لا وجود لله، حضر الله؛ ولكي يُخلِّص كلّ شخص يائس، أراد أن يلمس اليأس، ولكي يأخذ على عاتقه بؤسنا الأكثر مرارة، صرخ على الصّليب: "إِلهي، إِلهي، لِماذا تَرَكْتَني؟". إنّها صرخة تخلِّص. تُخلِّص لأنّ الله قد تبنّى أيضًا حالة التّرك الّتي نعيشها. والآن، نحن معه، لسنا أبدًا وحدنا بعد الآن.

كيف يمكننا أن نتعلّم أن نرى المجد في الصّليب؟ لقد علّمنا بعض القدّيسين أنّ الصّليب يشبه كتابًا، ولكي نعرفه، علينا أن نفتحه ونقرأه. لا يكفي أن نشتري كتابًا ونلقي عليه نظرة ونعرضه في البيت. وهذا الأمر ينطبق أيضًا على الصّليب: إنّه مرسوم أو منقوش في زاوية من زوايا كنائسنا. هناك عدد لا يُحصى من الصّلبان: حول العُنق، وفي البيت، وفي السّيّارة، وفي الجيب. ولكن لا نفع لذلك، ما لم نتوقّف لننظر إلى الصّليب، ونفتح له قلوبنا، وما لم نسمح لجراحه الّتي فُتحت من أجلنا بأن تُدهشنا، وما لم ينتفخ قلبنا بالتّأثُّر ولم نبكِ أمام الله الّذي جُرِح محبّة بنا. إن لم نفعل ذلك، سيبقى الصّليب كتابًا لم نقرؤه، نعرف جيّدًا عنوانه ومؤلِّفه ولكنّه لا يؤثّر في حياتنا. لا نحوِّلنَّ الصّليب إلى مجرّد أداة تقوى، ولا إلى رمز سياسيّ أو علامة ذات أهمّيّة دينيّة أو اجتماعيّة.

ومن التّأمّل في الصّليب تولد الخطوة الثّانية: وهي الشّهادة. إذا حدَّقنا النّظر في يسوع، يبدأ وجهه بالانعكاس على وجهنا: تصبح ملامحه ملامحنا، تأخذ محبّة المسيح بمجامح قلوبنا وتحوِّلنا. أفكّر في الشّهداء الّذين شهدوا لمحبّة المسيح في هذه الأمّة في أوقات صعبة، عندما كان كلُّ شيء ينصح بالسّكوت، والاختباء، وعدم الاعتراف بالإيمان، لم يستطيعوا إلّا أن يشهدوا. كم من الأشخاص الأسخياء تألّموا وماتوا هنا في سلوفاكيا من أجل اسم يسوع! شهادة تمّت محبّة بالّذي طالما تأمّلوا فيه. لدرجة التّشبّه به، حتّى في الموت. لكنّني أفكّر أيضًا في زمننا، الّذي لا تنقص فيه فرص الشّهادة. هنا، والشّكر لله، لا يوجد من يضطّهد المسيحيّين كما في أماكن أخرى كثيرة من العالم. ولكن يمكن أن تَبطُل الشّهادة بروح الدّنيويّة والفتور. بينما يتطلّب الصّليب شهادة واضحة. لأنّ الصّليب لا يريد أن يكون مجرّد علم يُرفع عاليًا، وإنّما مصدرًا نقيًّا لأسلوب عيش جديد. وأيّ أسلوب؟ أسلوب الإنجيل، وأسلوب التّطويبات. إنَّ الشّاهد الّذي يحمل الصّليب في قلبه وليس فقط حول عنقه، لا يرى أحدًا كعدوّ له، بل يرى الجميع إخوةً وأخواتٍ بذل يسوع حياته من أجلهم. إنَّ شاهد الصّليب لا يتذكّر أخطاء الماضي ولا يتذمّر من الحاضر. شاهد الصّليب لا يستخدم أساليب الخداع والقوّة الدّنيويّة: فهو لا يريد أن يفرض نفسه وخاصّته، وإنّما أن يبذل حياته في سبيل الآخرين. لا يبحث عن منافعه الخاصّة لكي يُظهر ورَعه فيما بعد: لأنّ هذا سيكون دين الازدواجيّة، وليس شهادة لله المصلوب. إنَّ شاهد الصّليب يتبع استراتيجيّة واحدة فقط، وهي استراتيجيّة المعلّم: المحبّة المتواضعة. هو لا ينتظر انتصارات هنا على الأرض، لأنّه يعرف أنّ محبّة المسيح تثمر في الحياة اليوميّة وتجدّد كلَّ الأشياء من الدّاخل، مثل البذرة الّتي تقع على الأرض، فتموت وتعطي ثمارًا.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لقد رأيتم شهودًا. احتفظوا بالذّكرى العزيزة للأشخاص الّذين أرضعوكم وربّوكم على الإيمان. إنّهم أشخاص متواضعين وبسطاء، وقد بذلوا حياتهم إذ أحبّوا حتّى النّهاية. إنّهم أبطالنا، أبطال الحياة اليوميّة، وحياتهم هي الّتي ستغيّر التّاريخ. إنَّ الشّهود يلدون شهودًا آخرين، لأنّهم يمنحون الحياة. وهكذا ينتشر الإيمان: ليس بقوّة العالم، بل بحكمة الصّليب، ليس بالأبنية، وإنّما بالشّهادة. واليوم من صمت الصّليب المدوِّي يسأل الرّبّ كلُّ فرد منّا: "هل تريد أن تكون لي شاهدًا؟". على الجُلْجُلة مع يوحنّا كانت واقفة أيضًا والدة الله القدّيسة. لم يرَ أحدٌ كِتاب الصّليب مفتوحًا مثلها، ولم يشهد أحدٌ له مثلها من خلال المحبّة المتواضعة. لنطلب بشفاعتها نعمة أن نحوِّل نظر القلب إلى المصلوب، وعندها سيزهر إيماننا بملئه وستنضج ثمار شهادتنا."