البابا فرنسيس: الإفخارستيّا هي قلب الكنيسة النّابض
يخبرنا الإنجيل الذي سمعناه عن العشاء الأخير ولكن وللمفاجأة نجد أنّ التّشديد هو على التّحضيرات أكثر من العشاء نفسه، وبالتّالي يتكرّر الفعل "أعدَّ" مرّات عديدة، على سبيل المثال سأل التّلاميذ يسوع: "إِلى أَينَ تُريدُ أَن نَمضِيَ فنُعِدَّ لَكَ لِتَأكُلَ الفِصح؟"، فأرسلهم يسوع ليعدّوا العشاء مع تعليمات واضحة ولكنّهم وجدوا "عُلِّيَّةً كبيرَةً مَفْروشَةً مُهَيَّأَةً"، لقد ذهبوا ليعدّوا ولكن الرّبّ كان قد أعدَّ كلَّ شيء. هذا ما حصل أيضًا بعد القيامة عندما ظهر يسوع لتلاميذه للمرّة الثّالثة فيما كانوا يصطادون، فانتظرهم على الشّاطئ حيث أعدَّ لهم الخبز والسّمك. ولكنّه في الوقت عينه طلب منهم أن يأتوه بقليل من السّمك الذي أصابوه. هنا أيضًا أعدّ الرّبّ كلّ شيء وطلب من تلاميذه أن يعاونوه. وقبل أيّام من الفصح قال يسوع لتلاميذه: "في بَيتِ أَبي مَنازِلُ كثيرة ولَو لم تَكُنْ، أَتُراني قُلتُ لَكم إِنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مُقامًا؟ وإِذا ذَهَبتُ وأَعددتُ لَكُم مُقامًا أَرجعُ فآخُذُكم إِلَيَّ لِتَكونوا أَنتُم أَيضًا حَيثُ أَنا أَكون". يسوع هو الذي يعدُّ أيضًا ويطلب منّا بواسطة الأمثال أن نُعدَّ أنفسنا ونكون مستعدّين. إنّ يسوع يُعدُّ لنا ويطلب منّا أن نستعدَّ أيضًا. ماذا يُعدُّ لنا يسوع؟ يُعدُّ لنا مُقامًا ومأكلاً، مُقامًا أكثر كرامة من "عُلِّيَّة كبيرَة مَفْروشَة مُهَيَّأَة". إنّه بيتنا الكبير والواسع هنا على الأرض، الكنيسة حيث هو حاضر وحيث هناك مكان للجميع. لكنّه قد حفظ لنا مكانًا أيضًا في السّماء لنكون معه ويكون بيننا على الدّوام. بالإضافة إلى المقام يعدُّ لنا مأكلاً أيضًا، خبزًا ليس إلّا هو نفسه: "خُذوا، هذا هُوَ جَسَدي". هاتان العطيّتان، المقام والمأكل، هما ما نحتاج إليه لنعيش. إنّهما المأكل والمسكن النّهائيّين، وكلّاهما يعطيان لنا في الإفخارستيّا. هنا يُعدُّ لنا يسوع مقامًا لأنَّ الإفخارستيّا هي قلب الكنيسة النّابض، يخلقها وينعشها ويجمعها ويعطيها القوّة. لكنَّ الافخارستيا تعدُّ لنا أيضًا مكانًا في السّماء في الحياة الأبديّة لأنّها خبز السّماء. تأتي من فوق وهي الشّيء الوحيد على هذه الأرض والذي له طعم الأبديّة. إنّه خبز المستقبل الذي يجعلنا نتذوّق منذ الآن مستقبلاً أكبر وأفضل من كلِّ تطلُّعاتنا. إنّه الخبز الذي يشبع انتظاراتنا ويغذّي أحلامنا الأجمل. بكلمة واحدة هو عربون الحياة الأبديّة واستباقًا ملموسًا لما سيُعطى لنا.
الإفخارستيّا هي كالـ "حجز" للفردوس، إنّها يسوع، زاد مسيرتنا نحو الحياة التي لن تنتهي أبدًا. في القربانة المكرّسة، بالإضافة إلى المكان يعدُّ لنا يسوع أيضًا مأكلاً وغذاء. نحتاج في حياتنا لأن نتغذّى على الدّوام وليس بالأكل وحسب وإنّما بالمشاريع والعواطف والرّغبات والرّجاء. نحن جائعون للحبّ ولا يمكن للإطراء وللهدايا ولا للتّقنيّات الجديدة أن تُشبعنا، ولكنّ الإفخارستيّا، الخبز البسيط، هو الوحيد الذي يشبعنا لأنّ ما من حبٍّ أعظم منه. هناك نلتقي بيسوع حقيقةً ونشاركه حياته ونشعر بمحبّته؛ هناك يمكننا أن نختبر أنَّ موته وقيامته هما لنا. وعندما نعبد يسوع في الإفخارستيّا ننال منه الرّوح القدس ونجد السّلام والفرح. أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنختار خبز الحياة هذا، ونضع القدّاس في المرتبة الأولى ولنكتشف مجدّدًا جمال السّجود للقربان المقدّس في جماعاتنا. لنطلب نعمة الجوع لله ونعمة ألا نشبع أبدًا مما يُعدُّه لنا، ولنسأله كتلاميذه: "إِلى أَينَ تُريدُ أَن نَمضِيَ فنُعِدَّ لَكَ؟" أين؟ إنَّ يسوع لا يفضِّل أماكن مميّزة أو حصريّة، بل يبحث عن أماكن لم يبلغها الحبّ ولم يلمسها الرّجاء، ويريد أن يذهب إلى تلك الأماكن ويطلب منّا أن نُعدَّ له هناك. كم من الأشخاص يحُرمون من مكان كريم ليعيشوا وللخبز ليأكلوا! ولكن نعرف جميعًا أشخاصًا وحيدين ومتألِّمين ومعوزين: إنّهم بيوت قربان متروكة. نحن الذين ننال من يسوع المأكل والمسكن، نحن هنا لنُعدَّ مكانًا ومأكلاً لهؤلاء الإخوة الأشدَّ ضعفًا. يسوع قد صار خبزًا مكسورًا لنا ويطلب منّا أن نعطي ذواتنا للآخرين وألّا نعيش لأنفسنا بعد الآن وإنّما من أجل بعضنا البعض. هكذا نعيش بشكل إفخارستيّ ونُفيض في العالم المحبّة التي نستقيها من جسد الرّبّ. إن الإفخارستيّا تترجم في الحياة بالانتقال من الـ "أنا" إلى الـ "أنت". يخبرنا الإنجيل أنّ التّلاميذ قد أعدّوا العشاء بعد أن دخلوا المدينة، واليوم يدعونا الرّبّ أيضًا لنعدَّ وصوله بالدّخول إلى مدننا ولنسأله يا ربّ ما هي الأبواب التي تريد أن نفتحها لك؟ ما هي البوّابات التي تريدنا أن نشرِّعها والانغلاقات التي علينا تخطّيها؟ يريدنا يسوع أن نهدم جدران اللّامبالاة والتآمر وأن نزيل حواجز الاستغلال والتّسلُّط ونفتح دروب العدالة والاحترام والشّرعيّة. إنَّ شاطئ هذه المدينة الواسع يذكّرنا بجمال الانفتاح على الحياة، ولكن لنقوم بذلك علينا أن نفكَّ العقد التي تربطنا بمراسي الخوف والظّلم. تدعونا الإفخارستيّا لنسمح ليسوع بأن ينقلنا فلا نبقى مُثقّلين على الشاطئ في انتظار شيء ما، بل نُبحر أحرارًا وشجعانًا ومتّحدين. يخبرنا الإنجيل، في نهاية العشاء سبّح التّلاميذ وخرجوا وفي نهاية القدّاس سننطلق نحن أيضًا، سنسير مع يسوع على دروب هذه المدينة. هو يرغب في أن يقيم في وسطكم، وأن يزور بيوتكم ويقدّم لكم رحمته المحرِّرة ويبارككم ويعزّيكم. تعال يا رب، نستقبلك في قلوبنا وعائلاتنا ومدننا. شكرًا لأنّك تُعدُّ لنا خبز الحياة ومقامًا في ملكوتك. إجعلنا نشيطين في التّحضير لك وحملة فرحين لك، فنحمل الأخوّة والعدالة والسّلام إلى دروبنا!