العالم
06 شباط 2023, 07:30

البابا فرنسيس اختتم زيارته إلى جنوب السّودان بقدّاس في جوبا

تيلي لوميار/ نورسات
مختتمًا زيارته إلى جنوب السّودان، ترأّس البابا فرنسيس القدّاس الإلهيّ في ضريح جون قرنق في جوبا، بعد أن كان قد وصل يوم الجمعة إلى البلاد.

وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "أريد اليوم أن أتبنّى وأكرّر لكم الكلمات الّتي وجّهها القدّيس بولس الرّسول إلى جماعة كورنثوس في القراءة الثّانية: "لَمّا أَتَيتُكُم، أَيُّها ٱلإِخوَة، لَم آتِكُم لِأُبَلِّغَكُم سِرَّ اللهِ بِسِحرِ البَيانِ أَوِ الحِكمَة. فَإِنّي لَم أَشَأ أَن أَعرِفَ شَيئًا، وَأَنا بَينَكُم، غَيرَ يَسوعَ ٱلمَسيح، بَل يَسوعَ المَسيحَ المَصلوب". نعم، إنَّ خوف بولس هو خوفي أيضًا، إذ أجد نفسي هنا معكم باسم يسوع المسيح، إله المحبّة، الإله الّذي حقّق السّلام من خلال صليبه؛ يسوع، الإله الّذي صُلب من أجلنا جميعًا. يسوع المصلوب في المتألّمين، يسوع المصلوب في حياة الكثيرين منكم، وفي العديد من الأشخاص في هذا البلد؛ يسوع القائم من الموت والمنتصر على الشّرِّ والموت. لقد جئت إليكم لكي أعلنه لكم، وأثبّتكم فيه، لأنّ إعلان المسيح هو إعلان رجاء: هو في الواقع، يعرف الأحزان والانتظارات الّتي تحملونها في قلوبكم، والأفراح والجهود الّتي تطبع حياتكم، والظّلمة الّتي تُثقِلكم والإيمان الّذي، مثل نشيد في اللّيل، ترفعوه إلى السّماء. إنَّ يسوع يعرفكم ويحبّكم. وبالتّالي، إذا ثبتنا فيه، فلا يجب أن نخاف، لأنّ بالنّسبة لنا أيضًا كلّ صليب سيتحوّل إلى قيامة، وكلّ حزن إلى رجاء، وكلّ نواح إلى رقص.

لذلك أريد أن أتوقّف عند كلمات الحياة الّتي وجّهها لنا ربّنا يسوع اليوم في الإنجيل: "أَنتُم مِلحُ الأَرض [...]. أنتم نور العالم". ماذا تقول لنا هذه الصّور نحن تلاميذ يسوع؟ أوّلاً، نحن ملح الأرض. يستخدم الملح لكي يعطي نكهة للطّعام. إنّه المكوّن غير المرئيّ الّذي يعطي نكهة لكلّ شيء. لهذا السّبب بالتّحديد، منذ العصور القديمة، كان يُنظر إليه كرمز للحكمة، أيّ لتلك الفضيلة الّتي لا يمكن رؤيتها، ولكنّها تعطي طعمًا للحياة والّتي بدونها تصبح الحياة بلا طعم وبلا نكهة. ولكن عن أيّة حكمة يكلّمنا يسوع؟ هو يستخدم صورة الملح هذه فورًا بعد أن أعلن التّطويبات لتلاميذه: نفهم إذن أنّها ملح حياة المسيحيّ. في الواقع، تحمل التّطويبات حكمة السّماء إلى الأرض: هي تحدث ثورة في معايير العالم وفي أسلوب التّفكير المشترك. وماذا تقول؟ باختصار، هي تؤكِّد أنّه لكي ننال الطّوبى، أيّ لكي نكون سعداء بشكل كامل، لا يجب أن نحاول أن نكون أقوياء وأثرياء ومتغطرسين، وإنّما متواضعين وودعاء ورحماء؛ وألّا نؤذي أحدًا، بل نكون صانعي سلام للجميع. إنّها- كما يقول لنا يسوع- حكمة التّلميذ، وهي الّتي تعطي نكهة للأرض الّتي نعيش فيها. لنتذكّر على الدّوام: إذا وضعنا التّطويبات موضع التّنفيذ، وإذا جسّدنا حكمة يسوع، نحن لا نعطي نكهة جيّدة لحياتنا وحسب، وإنّما للمجتمع أيضًا وللبلد الّذي نعيش فيه.

لكن الملح، بالإضافة إلى إعطاء النّكهة، لديه وظيفة أخرى، كانت ضروريّة في زمن المسيح: الحفاظ على الطّعام لكي لا يفسد ويُتلف. ومع ذلك، يقول الكتاب المقدّس إنّه كان هناك "طعام"، خير أساسيّ ينبغي الحفاظ عليه قبل أيّ شيء آخر: العهد مع الله. لذلك في ذلك الزّمان، في كلّ مرّة كان يقدّم فيها المرء قربانًا للرّبّ، كان يضع القليل من الملح. لنُصغِ في الواقع إلى ما يقوله الكتاب المقدّس حول هذا الموضوع: "وكلّ قربان من تقادمك بالملح تملّحه ولا تخلُ تقدمتُك من ملح عهد إلهك، على جميع قرابينك تُقرِّب ملحًا". لذلك كان الملح يذكّر بالحاجة الأساسيّة للحفاظ على الرّباط مع الله، لأنّه أمين معنا، وعهده معنا لا يفسد، ولا يُنتهك ودائم. لذلك، فإنّ تلميذ يسوع، كملح للأرض، هو شاهد على العهد الّذي قطعه، على ذلك العهد الّذي نحتفل به في كلّ قدّاس: عهد جديد أبديّ راسخ، محبّة لنا لا يمكن حتّى لعدم أمانتنا أن تكسرها.

أيها الإخوة والأخوات، نحن شهود على هذه الأعجوبة. في العصور القديمة، عندما كان الأشخاص أو الشّعوب يقيمون صداقة مع بعضهم البعض، كانوا يتعهّدون بها غالبًا بتبادل القليل من الملح؛ وبالتّالي نحن ملح الأرض مدعوّون لكي نشهد للعهد مع الله بفرح وامتنان ولكي نُظهر أنّنا أشخاص قادرون على خلق روابط صداقة، وعلى عيش الأخوّة وبناء علاقات بشريّة جيّدة، لكي نمنع أن يسود فساد الشّرّ ووباء الانقسامات وقذارة الأعمال الجائرة وآفة الظّلم.

أريد اليوم أن أشكركم لأنّكم ملح الأرض في هذا البلد. ومع ذلك، إزاء العديد من الجراح والعنف الّذي يغذّي سمّ الكراهيّة، والظّلم الّذي يسبّب البؤس والفقر، قد يبدو لكم أنّكم صغار وعاجزين. ولكن، عندما تنهال عليكم تجربة الشّعور بأنّكم غير مناسبين، حاولوا أن تنظروا إلى الملح وحبوبه الصّغيرة: إنّه مكوّن صغير، بمجرد وضعه على طبق ما، يختفي ويذوب، ولكنّه بهذه الطّريقة بالتّحديد يعطي نكهة للطّبق بأكمله. وهكذا، نحن المسيحيّين، على الرّغم من هشاشتنا وصغر حجمنا، حتّى عندما تبدو قوّتنا صغيرة أمام ضخامة المشاكل وضراوة العنف الأعمى، يمكننا أن نقدّم مساهمة حاسمة في تغيير التّاريخ. يريدنا يسوع أن نتصرّف مثل الملح: يكفي أن تذوب رشَّةٌ منه لكي تعطي نكهة مختلفة للطّبق كلّه. لذلك لا يمكننا أن نتراجع، لأنّه بدون ذلك القليل، بدون القليل الّذي نضعه، يفقد كلّ شيء مذاقه. لنبدأ إذًا من القليل، من الأساسيّ، ممّا لا يظهر في كتب التّاريخ ولكنّه يغيّر التّاريخ: بإسم يسوع وتطويباته لنضع أسلحة الكراهيّة والانتقام جانبًا لكي نعانق الصّلاة والمحبّة؛ لنتغلّب على ذلك البغض والنّفور اللّذين أصبحا، مع مرور الوقت، مُزمنَين ويخاطران في خلقِ تبايُنٍ بين القبائل والإثنيّات؛ لنتعلّم أن نضع على الجراح ملح المغفرة الّذي يُحرق ولكنّه يشفي. وحتّى إذا كان القلب ينزف بسبب الإساءات الّتي نلناها، لنتخلّى للأبد عن الرّدِّ على الشّرِّ بالشّرّ، وسنكون بخير في الدّاخل؛ لنقبل بعضنا البعض بصدق وسخاء كما يفعل الله معنا. لنحافظ على الخير الّذي نحن عليه، ولا نسمحنَّ للشّرِّ أن يُفسدنا.

لننتقل إلى الصّورة الثّانية الّتي استخدمها يسوع، النّور: أنتم نور العالم. تقول نبوءة شهيرة عن شعب إسرائيل: "إنّي قد جعلتك نورًا للأمم ليبلغ خلاصي إلى أقاصي الأرض". الآن تحقّقت هذه النّبوءة، لأنّ الله الآب أرسل ابنه وهو نور العالم، النّور الحقيقيّ الّذي ينير كلّ إنسان وكلّ شعب، النّور الّذي يسطع في الظّلمات ويُبدّد سحاب أيّة ظلمة. لكن يسوع، نور العالم، يقول لتلاميذه إنّهم هم أيضًا نور العالم. هذا يعني أنّه إذ نقبل نور المسيح، النّور الّذي هو المسيح، نُصبح منيرين ونشعُّ بنور الله! ويضيف يسوع: "لا تَخفى مَدينَةٌ قائِمَةٌ عَلى جَبَل. وَلا يوقَدُ سِراجٌ وَيوضَعُ تَحتَ المِكيال، بَل عَلى المَنارَة، فَيُضيءُ لِجَميعِ الَّذينَ في البَيت". في هذه الحالة أيضًا، يتعلّق الأمر بصور مألوفة في ذلك الزّمن: كانت عدّة قرى في الجليل على التّلال، وكان يمكن رؤيتها بوضوح من بعيد؛ وكانت السُّرجُ في البيوت توضع عاليًا لكي تضيء جميع زوايا الغرفة. ومن ثمّ، عندما كان يجب إطفاءها، كانت تتمّ تغطيتها بجسم من خشب أو من الطّين يسمّى "المكيال"، كان يقطع الأوكسيجين عن الشّعلة إلى أن تنطفئ.

أيّها الإخوة والأخوات، إنّ دعوة يسوع لكي نكون نور العالم واضحة جدًّا: نحن تلاميذه، مدعوّون لكي نسطع مثل مدينة قائمة على جبل وكسراج لا يجب أن يُطفأ أبدًا. بعبارة أخرى، قبل أن نقلق بسبب الظّلمات الّتي تحيط بنا، قبل أن نرجو في أن يضيء شيء من حولنا، نحن مدعوّون لكي نسطع وننير بحياتنا وأعمالنا المدن والقرى والأماكن الّتي نُقيم فيها، والأشخاص الّذين نقضي الوقت معهم والنّشاطات الّتي نقوم بها. إنَّ الرّبّ يعطينا القوّة لكي نكون فيه نورًا للجميع، لأنّه على الجميع أن يروا أعمالنا الصّالحة، وبرؤيتهم لها- يذكرنا يسوع-، سوف ينفتحون بدهشة على الله ويمجّدونه: إذا عشنا كأبناء وإخوة على الأرض، سيكتشف النّاس أنّ لديهم أبًا في السّماء. لذلك يُطلب منّا أن نتّقد حبًّا وبالتّالي لا يجب لنورنا أن ينطفئ، ولا لأوكسيجين المحبّة أن يختفي من حياتنا، ولا لأعمال الشّرّ أن تنتزع الهواء النّقيّ لشهادتنا. هذه الأرض الجميلة والمعذّبة تحتاج إلى نور كلِّ فرد منكم، لا بل إلى النّور الّذي هو كلَّ فرد منكم!

أيّها الأعزّاء، أتمنّى لكم أن تكونوا الملح الّذي ينتشر ويذوب بسخاء لكي يُطيِّب جنوب السّودان بطعم الإنجيل الأخويّ؛ وأن تكونوا جماعات مسيحيّة منيرة، يمكنها، مثل المدن القائمة على الجبل، أن تنير الجميع وتُظهر أنّه من الجميل والممكن أن نعيش المجانيّة ونتحلّى بالرّجاء وأن نبني معًا مستقبلًا متصالحًا. أنا معكم وأتمنّى لكم أن تختبروا فرح الإنجيل، والطّعم والنّور الّذي يريد الرّبّ، "إله السّلام" و"إله كلّ تعزية" أن يفيضهما على كلّ واحد منكم."

في ختام الذّبيحة الإلهيّة، ألقى البابا فرنسيس كلمة قال فيها: "أحيّي رئيس الجمهوريّة وجميع السّلطات المدنيّة والدّينيّة الحاضرة. لقد وصلت الآن إلى نهاية هذا الحجّ بينكم وأرغب في أن أعبِّر عن امتناني على الاستقبال الّذي لقيته وعلى العمل الّذي تمَّ القيام به للتّحضير لهذه الزّيارة.

أنا ممتن لكم جميعًا، أيّها الإخوة والأخوات، الّذين جئتم إلى هنا بأعداد كبيرة من مناطق مختلفة، والعديد منكم قد قطعوا مسافات طويلة! بالإضافة إلى المودّة الّتي أظهرتموها لي، أشكركم على إيمانكم وعلى صبركم وعلى كلّ الخير الّذي تقومون به وعلى الجهود الّتي تعرفون كيف تقدّمونها لله بدون أن تثبط عزيمتكم، عارفين كيف تمضون قدمًا. توجد في جنوب السّودان كنيسة شجاعة مرتبطة بكنيسة السّودان، كما ذكّرنا رئيس الأساقفة، الّذي ذكر شخصيّة القدّيسة جوزفين بخيتة: امرأة عظيمة حوّلت، بنعمة الله، الألم الّذي عاشته إلى رجاء. كتب بندكتس السّادس عشر "إنَّ الرّجاء الّذي وُلد من أجلها و"افتداها" لم يكن بإمكانها أن تحتفظ به لنفسها؛ وإنّما كان يجب لهذا الرّجاء أن يبلغ الكثيرين، وأن يصل إلى الجميع". الرّجاء هو الكلمة الّتي أريد أن أتركها لكلِّ فردٍ منكم، كعطيّة تتقاسمونها وكبذرة خصبة. وكما تذكّرنا شخصيّة القدّيسة جوزفين، إنَّ الرّجاء، هنا بشكل خاصّ، هو علامة النساء وأريد أن أشكر وأبارك بشكل خاصّ جميع نساء البلد.

أريد أن أربط كلمة الرّجاء بكلمة أخرى، كلمة هذه الأيّام: السّلام. مع أخوي جوستين وإيان، اللّذين أشكرهما بصدق، أتينا إلى هنا وسنواصل مواكبة خطواتكم، وسنفعل كل ما في وسعنا لكي تكون خطوات سلام وخطوات نحو السّلام. أريد أن أوكل مسيرة المصالحة والسّلام إلى امرأة أخرى، إنّها أمّنا الحنونة مريم، ملكة السّلام. لقد رافقتنا بحضورها المحبِّ والصّامت. إليها، الّتي نرفع لها صلاتنا الآن، نوكل قضيّة السّلام في جنوب السّودان وفي القارّة الأفريقيّة بأكملها. إلى العذراء مريم نوكل أيضًا السّلام في العالم ولاسيّما في العديد من البلدان الّتي تعيش في حالة حرب، مثل أوكرانيا المعذّبة.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أعود إلى روما وأنا أحملكم في قلبي بشكل أكبر. أكرّر: أنتم في قلبي، وأنتم في قلوبنا، أنتم في قلوب المسيحيّين في جميع أنحاء العالم! لا تفقدوا الرّجاء أبدًا. ولا تفوّتوا فرصة بناء السّلام. ليقيم فيكم الرّجاء والسّلام، ليقيم الرّجاء والسّلام في جنوب السّودان!".