العالم
03 كانون الأول 2021, 06:20

البابا فرنسيس إلتقى السّلطات المدنيّة وأعضاء السّلك الدّبلوماسيّ - قبرص

تيلي لوميار/ نورسات
بعد لقائه مع الكهنة والرّهبان والرّاهبات والشّمامسة ومعلّمي الدّين والحركات الكنسيّة في الكاتدرائيّة المارونيّة، توجّه البابا فرنسيس إلى القصر الرّئاسيّ في نيقوسيا حيث جرت مراسم الاستقبال الرّسميّ والتقى رئيس البلاد Nicos Anastasiades. توجّه بعدها الرّجلان إلى قاعة الاحتفالات وكان للبابا لقاء مع السّلطات المدنيّة وأعضاء السّلك الدبلوماسيّ والمجتمع المدنيّ، ّوجّه البابا للحاضرين خطابًا استهلّه موجّهًا لهم تحيّة قلبيّة ومعربًا عن سعادته لوجوده بينهم، كما شكر الرّئيس على التّرحيب الذي خصّه به باسم الشّعب كلّه، وقال بحسب "فاتيكان نيوز":

"لقد جئتُ حاجّا إلى بلد صغير في جغرافيّته، ولكنّه كبيرٌ بتاريخه؛ جئتُ إلى جزيرة لم تعزل النّاسَ عبر القرون، بل ربطت فيما بينهم؛ جئتُ إلى أرض البحرُ هو حدودُها، وإلى مكان يشكّل البوّابة الشّرقيّة لأوروبا والبوّابة الغربيّة للشّرق الأوسط. أنتم بابٌ مفتوح، وميناءٌ يجمع: إنّ قبرص، تقاطعَ طرق الحضارات، تحمل في طيّاتها دعوةً فطريّة إلى التّلاقي، يميّزها الطّابعُ المضياف للقبارصة.

لقد كرّمنا للتوّ أوّل رئيس لهذه الجمهوريّة، رئيس الأساقفة مكاريوس، ومن خلال هذا التّكريم شئتُ أن أكرّم جميع المواطنين. يستحضر اسمُ، مكاريوس، الكلمات الافتتاحيّة لعظة يسوع الأولى: ألا وهي التّطويبات (راجع متّى 5، 3-12). من هو مكاريوس، من هو طوباويٌ حقا بحسب الإيمان المسيحيّ، الذي ترتبط به هذه الأرض ارتباطًا وثيقًا؟ الجميع يمكنهم أن يكونوا طوباويّين، وخصوصًا الفقراء بالرّوح، وجرحى الحياة، ومن يعيشون بوداعة ورحمة، ومن يمارسون العدل ويبنون السّلام دون أن يُظهروا ذلك. التّطويبات، أيّها الأصدقاء الأعزاء، هي دستورُ المسيحيّة الدّائم. وعيشُها يسمح للإنجيل بأن يبقى فتيًّا على الدّوام وبأن يُخصب المجتمع بالرجّاء. التّطويبات هي البوصلة التي توجّه، في مختلف الاتّجاهات، مساراتِ المسيحيّين في رحلة الحياة.

من هذا المكان، حيث تلتقي أوروبا مع الشّرق، بدأ أول انثقافٍ كبيرٍ للإنجيل في القارّة. وإنّه لمؤثّرٌ بالنّسبة لي أن أسير من جديد في خُطى مُرسلِي الأصول (المسيحيّة) الكبار، ولاسيّما القدّيسِين بولس وبرنابا ومرقس. فها أنا حاجٌّ بينكم لأسيرَ معكم، أيّها القبارصة الأعزّاء؛ إنّي أسيرُ معكم جميعًا، راغبًا في أن تحمل بُشرى الإنجيل السّارّة، من هنا، رسالةَ فرحٍ لأوروبا في ضوء التّطويبات. في الواقع، إنّ ما أعطاه المسيحيّون الأوائل للعالم بقوّة الرّوح القدس الوديعة، كانَ رسالةَ جمال غيرَ مسبوقة. وكانت حداثةُ التّطويبات المدهشة في متناول الجميع، لتغزوَ القلوب وتمنح الكثيرين الحرّيّة. لهذا البلد إرثٌ خاصّ، في هذا المجال، فهو رسولُ الجمال بين القارّات. أراضي قبرص تسطعُ بجمالٍ لا بدّ من حمايته والحفاظ عليه من خلال سياسات بيئيّة مناسبة ومنسجمة مع بلاد الجوار. يَظهر الجمال أيضًا من خلال الهندسة المعماريّة والفنّ، لاسيّما الفنّ المقدّس، وفي الحِرَف الدّينيّة، وفي العديد من الكنوز الأثريّة. أودّ أن أقول، مستلهمًا من صورة من البحر المحيط بنا، إنّ هذه الجزيرة تمثّل لؤلؤة ذات قيمة كبيرة في قلب المتوسّط.

إنّ اللؤلؤة تتكوّن في الواقع مع مرور الزّمن: وتتطلّب سنوات حتّى تجعلها الطّبقاتُ المختلفة متماسكة ولامعة. هكذا تكوَّن جمال هذه الأرض، تكوّن من الثّقافات التي التقت وتخالطت فيها على مرّ القرون. لنور قبرص جوانب عديدة، اليوم أيضًا: كثيرةٌ هي الشّعوب وكثيرون هم الأشخاص الذين يكوِّنون، بأطيافهم المختلفة، سُلَّم الألوان الخاصّ بالسّكان. أفكّر أيضًا بحضور العديد من المهاجرين، ونسبتُهم من أعلى النّسب في دول الاتّحاد الأوروبيّ. إنّ الحفاظ على الجمال المتعدّد الألوان والأَوجُه ليس بالأمر السّهل. إنّه يتطلّب، كما في تكوين اللّؤلؤة، وقتًا وصبرًا، ويحتاج إلى نظرة واسعة تعانق تنوّع الثّقافات وتتطلّع إلى المستقبل ببُعد نظر. ومن الأهميّة بمكان أن تُوفَّر الحماية لكلّ مكوّن من مكوّنات المجتمع، وأن تُعزَّز تلك المكوّنات، وخصوصًا الأقلّيات العدديّة. أفكّر أيضًا بالمؤسّسات الكاثوليكيّة المتعدّدة التي قد تستفيد من اعتراف مؤسّساتيّ مناسب، كي تكون المساهَمةُ التي تقدّمها للمجتمع من خلال أنشطتها، لاسيّما التّربويّة والخيريّة، واضحة المعالم من وجهة النّظر القانونيّة.

إنّ اللّؤلؤة تُظهِرُ جمالها في أصعب الظّروف. إنّها تولد في الظّلام، عندما ”تعاني“ المحارةُ نتيجة زيارة غير متوقعة تهدّد سلامتها، كحبّة رمل "تُزعجها". ولكي تحمي نفسها تقوم باستيعاب ما أضرّ بها: فتغلّف ما هو خطير وغريب بالنّسبة لها، وتحوّله إلى جمال، إلى لؤلؤة. لقد لفّ لؤلؤةَ قبرص ظلامُ الجائحة، التي منعت العديد من الزّوار من التّوجّه إليها ورؤية جمالها، ما فاقم – كما حدث في أماكن أخرى – تداعياتِ الأزمة الاقتصاديّة والماليّة. ومع ذلك، في فترة التّعافي هذه، لن يضمن الاندفاعُ لاستعادة ما فُقِد التنميةَ المتينة والمستدامة، بل الالتزام في تعزيز شفاء المجتمع، لاسيّما من خلال مكافحةٍ حاسمةٍ للفساد ومداواة الجروح التي تنال من كرامة الإنسان؛ وأفكّر هنا، على سبيل المثال، في الإتجار بالبشر.

لكنّ الجرح الذي تعاني منه هذه الأرض بنوع خاصّ ناتجٌ عن التّمزّق الرّهيب الذي أصابها في العقود الأخيرة. أفكّر في المعاناة الدّاخليّة لمن لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم وأماكن العبادة. أصلّي من أجل سلامكم، من أجل سلام الجزيرة كلّها، وأتمناه بقوّة. إنّ طريق السّلام، الذي يعالج الصّراعات ويجدّد جمال الأخوّة، يتميّز بكلمة واحدة ألا وهي "الحوار". لا بدّ أن نساعد بعضنا البعض على الإيمان بالقوّة الصّبورة والوديعة للحوار، مستمدّين إيّاها من التّطويبات. نعلمُ أنّ الدّرب ليست سهلة. إنّها طويلة ومتعرّجة، ولكن لا توجد بدائل للوصول إلى المصالحة. لنغذِّ الرّجاء بقوّة الأفعال، عوضًا عن الأمل بأفعال القوّة. لأنّ هناك قوةً للأفعال تهيّئ للسّلام: ليست قوّة السّلطة والتّهديد بالانتقام واستعراض القوى، ولكنّها قوةُ التّخفيف من التّوترات، وقوّة اتّخاذ خطوات عمليّة للحوار. أفكّر، على سبيل المثال، في الالتزام بالإعداد لحوار صادق يضع متطلّبات السّكان في المقام الأوّل، وبمشاركة فاعلة من قبل المجتمع الدّوليّ، فضلًا عن حماية التّراث الدّينيّ والثّقافيّ، وإعادة ما هو عزيز على قلوب النّاس، مثل الأماكن أو على الأقل الأواني المقدّسة. في هذا السّياق، أودّ أن أُعرب عن تقديري وتشجيعي ”للمسار الدّينيّ لمشروع السّلام القبرصيّ“، الذي ترعاه سفارةُ السّويد، حتّى ينمو الحوار بين القادّة الدّينيّين.

إنّ الأوقات التي تبدو غير ملائمة ويَخمد فيها الحوار، هي في الواقع الأوقات التي يمكن أن تحضّر للسّلام. هذا ما تذكّرنا به اللّؤلؤة، التي تتكوّن وسط الصّبر المظلم، ناسجةً مواد جديدة مع ما سبّب لها الجرح. في هذه الحالات الصّعبة، لا نسمَحنّ للكراهيّة بأن تسود، كما ينبغي ألّا نتخلى عن مداواة الجراح، أو ننسى أوضاع الأشخاص المفقودين. وعندما نواجه تجربة الإحباط، لنفكر في أجيال المستقبل، التي تريد أن ترث عالمًا ينعم بالسّلام والتّعاون والانسجام، لا تسكنه الخصومات الدّائمة ولا تلوّثه نزاعاتٌ عالقة. هذا هو هدفُ الحوار، الذي من دونه ينمو الشّكّ والاستياء. ليكن البحرُ المتوسّط مرجعًا لنا، الذي هو الآن وللأسف مكانٌ للصّراعات والمآسي الإنسانيّة؛ إنّه بحرُنا بجماله العميق، بحرُ جميع الشّعوب التي تُطلّ عليه لتكون متّصلة فيما بينها، لا منقسمة. إنّ قبرص، التي تشكّل تقاطعَ طرق من النّاحية الجغرافيّة والتّاريخيّة والثّقافيّة والدّينيّة، تتمتّع بموقع يمكّنها من القيام بـ"عمل سلام". لتكن ”ورشة مفتوحة“ للسّلام في البحر المتوسط.
السّلام لا يولد غالبًا من شخصيّات كبيرة، ولكن من العزيمة اليوميّة للصّغار. تحتاج القارة الأوروبيّة إلى المصالحة والوحدة، كما تحتاج إلى الشّجاعة والاندفاع كي تسير إلى الأمام. لن تساعد جدرانُ الخوف و"الفيتوهات" التي تُمليها المصالحُ القوميّة على التّقدّم، ولا حتّى الانتعاش الاقتصاديّ وحده يضمن لها الأمن والاستقرار. لننظر إلى تاريخ قبرص كي نرى كيف أعطى اللّقاءُ والاستقبال ثمارًا مفيدة على المدى البعيد. ليس فقط فيما يتعلّق بتاريخ المسيحيّة، والتي كانت قبرص بالنّسبة لها "منصّة الانطلاق" في القارّة، ولكن أيضًا من أجل بناء مجتمع وجد غناه في الاندماج. إنّ روح التّوسع والقدرةَ على النّظر أبعد من الحدود يزيداننا شبابًا، ويسمحان بإيجاد هذا اللّمعان الضّائع."

جاء ذكر قبرص في سفر أعمال الرّسل، الذي يُخبر أنّ بولس وبرنابا "اجتازا الجزيرةَ كلَّها" للوصول إلى بافُس (راجع أعمال الرّسل 13، 6). إنّه لمن دواعي سروري أن أجتاز في هذه الأيام تاريخَ هذه الأرض وروحَها، تحرّكني الرّغبةُ في أن يوّجه تَوقُها إلى الوحدة ورسالتُها الجماليّة مسارَها على الدّوام. بارك الله قبرص!"