الفاتيكان
26 كانون الثاني 2023, 09:45

البابا فرنسيس أصدر رسالته لليوم الإرساليّ العالميّ، فما هو موضوعها؟

تيلي لوميار/ نورسات
تحت عنوان "قلوبٌ مُتَّقدة وأقدام في مسيرة" صدرت ظهر أمس رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم الإرساليّ العالميّ السّابع والتّسعين الّذي يُحتفل به في الثّاني والعشرين من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، كتب فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"لليوم الإرساليّ العالميّ لهذا العام، اخترت موضوعًا مستوحى من قصّة تلميذَي عمّاوس، في إنجيل لوقا: "قلوب مُتَّقدة، وأقدام في مسيرة". كان هذان التّلميذان مرتبكَين وخائبَين، لكن اللّقاء مع المسيح في الكلمة وفي الخبز المكسور أشعل فيهما الحماس لكي ينطلقا مجدّدًا في مسيرة نحو أورشليم ويعلنا أنَّ الرّبَّ قام حقًّا. في رواية الإنجيل، ندرك تحوّل التّلميذَين من بعض الصّور الإيحائية: القلوب المتّقدة حين كان يسوع يشرح لهما الكتب، الأعيُن الّتي انفتحت عندما عرفاه، وكذروة لذلك الأقدام الّتي تنطلق في مسيرة. من خلال التّأمّل في هذه الجوانب الثّلاثة، الّتي تحدّد مسار التّلاميذ المرسلين، يمكننا أن نجدّد غيرتنا لكي نبشِّر في عالم اليوم.

على الدّرب من أورشليم إلى عمّاوس، كان قلبا التّلميذَين حزينَين- كما كان يظهر من وجهيهما- بسبب موت يسوع الّذي كانا يؤمنان به. وإزاء فشل المعلِّم المصلوب، خاب أملهما في أنّه هو المسيح. "وبينما هما يتحدّثان ويتجادلان، إذا يسوع نفسه قد دنا منهما وأخذ يسير معهما". وكما في بداية دعوة التّلاميذ، الآن أيضًا في لحظة ضياعهم، يبادر الرّبّ ويقترب من تلاميذه ويسير معهم. في رحمته العظيمة، هو لا يتعب أبدًا من أن يبقى معنا، على الرّغم من عيوبنا وشكوكنا وضعفنا، رغم الحزن والتّشاؤم اللّذين يقودانا لكي نصبح "قليلي الفهم وبطيئي القلب"، أناس قليلو الإيمان. واليوم، كما في ذلك الوقت، الرّبّ القائم من بين الأموات هو قريب من تلاميذه المرسلين ويسير إلى جانبهم، لاسيّما عندما يشعرون بالضّياع والإحباط والخوف إزاء سرّ الشّرِّ الّذي يحيط بهم ويريد أن يخنقهم. لذلك، لا نسمحنَّ لأحد بأن يسلُبَنا الرّجاء! الرّبذ هو أعظم من مشاكلنا، لاسيّما عندما نواجهها في إعلان الإنجيل للعالم، لأنّ هذه الرّسالة، في النّهاية، هي رسالته ونحن ببساطة مساعديه المتواضعين، "خَدَم لا خيرَ فيهم". أعبّر عن قربي بالمسيح من جميع المرسلين والمرسلات في العالم، ولاسيّما الّذين يعيشون أوقاتًا صعبة: إنَّ الرّبّ القائم من بين الأموات، أيّها الأصدقاء الأعزّاء، هو معكم على الدّوام ويرى سخاءكم وتضحياتكم من أجل رسالة البشارة في أماكن بعيدة. إنَّ أيّام الحياة ليست كلّها مُفعمة بأشعّة الشّمس، لكن لنتذكَّرنَّ على الدّوام كلمات الربّ يسوع لأصدقائه قبل الآلام: "تُعانونَ الشِّدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم".

بعد أن أصغى إلى التّلميذين اللّذين كانا في طريقهما إلى عمّاوس، بدأ يسوع القائم من الموت من موسى وجميع الأنبياء يفسّر لهما جميع الكتب ما يختصّ به. فاتّقد قلبا التّلميذَين، كما قال أحدهما للآخر في النّهاية: "أما كان قلبنا متّقدًا في صدرنا، حين كان يحدّثنا في الطّريق ويشرح لنا الكتب؟". يسوع في الواقع، هو الكلمة الحيّة، الّتي يمكنها وحدها أن تجعل القلب يتّقد ويستنير ويتحوّل. وهكذا نفهم بشكل أفضل تأكيد القدّيس إيرونيموس: "إنَّ تجاهل الكتاب المقدّس هو تجاهل المسيح". بدون الرّبّ الّذي يُدخلنا، من المستحيل أن نفهم الكتاب المقدّس بعمق، ولكن العكس صحيح أيضًا: بدون الكتاب المقدّس تبقى أحداث رسالة يسوع وكنيسته في العالم غير قابلة للفهم. لذلك، فإنّ معرفة الكتاب المقدّس مهمّة لحياة المسيحيّ، وأكثر من ذلك لإعلان المسيح وإنجيله. وإلّا، فسننقل للآخرين فقط أفكارنا ومشاريعنا الخاصّة، لأن القلب البارد لن يتمكّن أبدًا من جعل قلوب الآخرين تتَّقد. لنسمح إذن على الدّوام بأن يرافقنا الرّبّ القائم من بين الأموات الّذي يشرح لنا معنى الكتاب المقدّس. ولنسمح له بأن يجعل قلوبنا تتَّقد وأن ينيرنا ويحوِّلنا لكي نعلن للعالم سرّ خلاصه بالقوّة والحكمة اللّتين تأتيان من روحه.

إنَّ القلبين المُتَّقدَين بكلمة الله قد دفعا تلميذي عمّاوس أن يطلبا من ذلك المسافر الغامض أن يبقى معهما إذ قد حان المساء ومال النّهار. وحول المائدة انفتحت أعينهما وعرفاه عندما كسر الخبز. إنَّ العنصر الحاسم الّذي فتح أعيُنَ التّلميذَينِ هو تسلسل الأعمال الّتي قام بها يسوع: أخذ الخبز وبارك ثمّ كسره وناولهما. إنّها تصرّفات عاديّة لربّ عائلة يهوديّ، ولكن إذ قام بها يسوع المسيح بنعمة الرّوح القدس، جدّدت لجليسَيِّ المائدة علامة تكاثر أرغفة الخبز ولاسيّما علامة الإفخارستيّا، سرّ ذبيحة الصّليب. لكن في اللّحظة الّتي عرفا فيها يسوع في الشّخص الّذي كسر الخبز، "غاب عنهما". هذه الحقيقة تجعلنا نفهم حقيقة أساسيّة لإيماننا: المسيح الّذي يكسر الخبز يصبح الآن هو الخبز المكسور، الّذي يتشاركه مع التّلاميذ وبالتّالي الخبز الّذي يأكلوه. لقد أصبح غير مرئيّ، لأنّه دخل الآن في قلبي التّلميذَين لكي يجعلهما يتَّقدان بشكل أكبر ويدفعهما لكي يستأنفا السّير مُسرعَين لكي ينقلا للجميع الخبرة الفريدة للّقاء بالقائم من بين الأموات. وهكذا فإنّ المسيح القائم من بين الأموات هو الّذي يكسر الخبز وفي الوقت عينه هو الخبز الّذي يُكسَرُ من أجلنا. ولذلك، فإنّ كلّ تلميذ مرسل هو مدعوّ لكي يصبح، على مثال يسوع وفيه، بفضل عمل الرّوح القدس، الشّخص الّذي يكسر الخبز والّذي هو الخبز المكسور من أجل العالم.

في هذا الصّدد، علينا أن نتذكّر أنّ كسر الخبز المادّيّ البسيط مع الجياع بإسم المسيح هو عمل مسيحيّ إرساليّ. وبالتّالي فإنّ كسر الخبز الإفخارستيّ الّذي هو المسيح نفسه هو العمل الإرساليّ بامتياز، لأنّ الإفخارستيّا هي مصدر وذروة حياة الكنيسة ورسالتها. وقد ذكّر بذلك البابا بندكتس السّادس عشر: "لا يمكننا أن نحتفظ لأنفسنا بالحبّ الّذي نحتفل به في سرِّ الإفخارستيّا. لأنّه يطلب بحكم طبيعته تطلب أن يُنقَلَ للجميع. إنّ ما يحتاجه العالم هو محبّة الله، واللّقاء بالمسيح والإيمان به. ولهذا فإنّ الإفخارستيّا ليست فقط مصدر وذروة حياة الكنيسة، بل هي أيضًا مصدر وذروة حياة رسالتها: "الكنيسة الإفخارستيّة حقًّا هي كنيسة رسوليّة". لكي نُثمِر علينا أن نثبُت في الرّبّ؛ وهذا الثّبات يتحقّق من خلال الصّلاة اليوميّة، ولاسيّما في العبادة، والمثول بصمت في حضور الرّبّ الّذي يبقى معنا في الإفخارستيّا. من خلال تنمية هذه الشّركة مع المسيح بمحبّة، يمكن للتّلميذ المرسل أن يصبح صوفيًّا في العمل. لتَتُق قلوبنا دائمًا إلى رفقة يسوع، ولتتنهَّد طلب تلميذي عمّاوس لاسيّما عندما يحين المساء: "أُمكُث معنا يا ربّ!".

بعد أن فتح التّلميذان أعينهما وعرفا يسوع في "كسر الخبز"، "قاما في تلك السّاعة نفسها ورجعا إلى أورشليم". يُظهر انطلاقهما السّريع هذا، لكي يشاركا الآخرين فرح لقاء الرّبّ، أنَّ فرح الإنجيل يملأ قلوب وحياة الّذين يلتقون بيسوع. والّذين يسمحون له بأن يُخلِّصهم يتحرّرون من الخطيئة ومن الحزن والفراغ الدّاخليّ والعزلة. مع يسوع المسيح، يولد الفرح ويتجدّد على الدّوام. لا يمكننا أن نلتقي حقًّا بيسوع القائم من الموت دون أن تتَّقدَ فينا الرّغبة بأن نخبر الجميع بذلك. لذلك، فإنّ المورد الأوّل والأساسيّ للرّسالة هم الّذين تعرّفوا على المسيح القائم من الموت، في الكتاب المقدّس وفي الإفخارستيّا، والّذين يحملون ناره في قلوبهم ونوره في أعينهم. هؤلاء الأشخاص يمكنهم أن يشهدوا لحياة لا تموت أبدًا، حتّى في أصعب المواقف واللّحظات الأشدَّ حلاكًا. تذكّرنا صورة "الأقدام في مسيرة" مرّة أخرى بالصّلاحيّة الدّائمة للرّسالة إلى الأمم، الرّسالة الّتي أعطاها الرّبّ القائم من بين الأموات للكنيسة لكي تبشّر كلّ شخص وكلّ شعب حتّى أقاصي الأرض. إنَّ البشريّة، الّتي جُرحت بالعديد من المظالم والانقسامات والحروب، تحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى البشرى السّارّة للسّلام والخلاص في المسيح. لذلك أغتنم هذه الفرصة لكي أعيد التّأكيد على أنَّه يحقُّ للجميع أن ينالوا الإنجيل. ومن واجب المسيحيّين أن يعلنوه دون أن يستبعدوا أحدًا، لا كمن يفرض التزامًا جديدًا، وإنّما كمن يشارك في فرح، ويشير إلى أفق جميل، ويقدّم مأدبة مُغرية. يبقى الارتداد الرّسوليّ الهدف الأساسيّ الّذي علينا أن نقترحه على أنفسنا كأفراد وجماعة، لأنَّ العمل الرّسوليّ هو نموذج لكلّ عمل من أعمال الكنيسة.

وكما يؤكّد بولس الرّسول، إنّ محبّة المسيح تأخذ بمجامع قلبنا وتدفعنا. إنّها محبّة مزدوجة: محبّة المسيح لنا الّذي يدعو ويلهمنا ويثير محبّتنا له. وهذه المحبّة هي الّتي تجعل شابّة على الدّوام تلك الكنيسة الّتي تخرج وتنطلق، مع جميع أعضائها في رسالة لكي يعلنوا الإنجيل مُقتنعين أنَّ المسيح قد مات "من أجلهم جميعًا، كي لا يحيا الأحياء من بعد لأنفسهم، بل للّذي مات وقام من أجلهم". يمكن لأيّ شخص أن يساهم في هذه الحركة الإرساليّة: بالصّلاة والعمل، بتقدمة المال والآلام، وبشهادته الخاصّة. إنّ الأعمال الرّسوليّة البابويّة هي الأداة المميّزة لتعزيز هذا التّعاون الرّسوليّ على المستويين الرّوحيّ والمادّيّ. لهذا السّبب، فإنّ جمع التّبرّعات في اليوم الإرساليّ العالميّ مكرّسة للأعمال الرّسوليّة لنشر الإيمان. إنّ إلحاح عمل الكنيسة الرّسوليّ يستلزم بطبيعة الحال تعاونًا رسوليًّا أوثق بين جميع أعضائها على جميع المستويات. إنّه هدف أساسيّ للمسيرة السّينودسيّة الّتي تقوم بها الكنيسة بالكلمات الأساسيّة الشّركة والمشاركة والرّسالة. هذه المسيرة بالتّأكيد ليست انغلاقًا للكنيسة على نفسها، كما أنّها ليست عمليّة اِستَفتَاء شعبيّة لكي تقرّر، كما هو الحال في البرلمان، ما يجب أن نؤمن به ونمارسه أو لا وفقًا لتفضيلاتنا البشريّة. لا، بل هي انطلاق في مسيرة على مثال تلميذي عمّاوس، في الإصغاء إلى الرّبّ القائم من بين الأموات الّذي يأتي دائمًا بيننا لكي يشرح لنا معنى الكتاب المقدّس ويكسر الخبز لنا، لكي نتمكّن من مواصلة رسالتها بقوّة الرّوح القدس في العالم.

مثلما روى هذان التّلميذان للآخرين ما حدث على طول الطّريق، هكذا سيكون إعلاننا رواية فرِحة للمسيح الرّبّ، وحياته، وآلامه، وموته وقيامته، والعظائم الّتي حقّقها حبُّه في حياتنا. لننطلق إذن نحن أيضًا مجدّدًا ينيرنا اللّقاء بالقائم من بين الأموات ويحرّكنا روحه. لننطلق بقلوب مُتَّقدة وعيونٍ مفتوحة وأقدام في مسيرة لكي نجعل قلوبًا أخرى تتَّقِد بكلمة الله، ونفتح عيونًا أخرى على يسوع الإفخارستيّا، وندعو الجميع لكي يسيروا معًا على درب السّلام والخلاص الّتي منحها الله للبشريّة بيسوع المسيح. أيّتها القدّيسة مريم سيّدة الدّرب، وأمّ تلاميذ المسيح المُرسلين وسلطانة الرّسالات، صلّي لأجلنا!".