الفاتيكان
09 شباط 2021, 06:55

البابا فرنسيس: أتمنّى تجديد الالتّزام السّياسيّ الوطنيّ والدّوليّ من أجل تعزيز استقرار لبنان

تيلي لوميار/ نورسات
"أتمنّى تجديد الالتّزام السّياسيّ الوطنيّ والدّوليّ من أجل تعزيز استقرار لبنان، الذّي يمرّ بأزمة داخليّة والمُعرَّض لفقدان هويّته ولمزيد من التّورّط في التّوتّرات الإقليميّة. من الضّروريّ للغاية أن يحافظ البلد على هويّته الفريدة، وذلك أيضًا من أجل ضمان شرق أوسط متعدّد ومتسامح ومتنوّع، حيث يستطيع الوجود المسيحيّ أن يقدّم مساهمته وألّا يقتصر على أقلّيّة يجب حمايتها. إنّ المسيحيّين يشكّلون النّسيج الرّابط التّاريخيّ والاجتماعيّ للبنان، ومن خلال الأعمال التّربويّة والصّحّيّة والخيريّة العديدة، يجب أن تُضمَنَ لهم إمكانيّة الاستمرار في العمل من أجل خير البلد الذّي كانوا من مؤسّسيه. فقد يتسبّب إضعافُ الوجود المسيحيّ بفقدان التّوازن الدّاخليّ والواقع اللّبنانيّ نفسه. ومن هذا المنظور، يجب أيضًا معالجة وجود اللّاجئين السّوريّين والفلسطينيّين. فالبلد إضافة لذلك، دون عمليّة عاجلة لأنّعاش الاقتصاد وإعادة الإعمار، مُعرّض لخطر الإفلاس، مع ما قد ينتج عنه من انحرافات أصوليّة خطيرة. لذلك فمن الضّروريّ أن يتعهّد جميع القادة السّياسيّين والدّينيّين، واضعين جانبًا مصالحهم الخاصّة، بالسّعي لتحقيق العدالة وتنفيذ إصلاحات حقيقيّة لصالح المواطنين، فيتصرّفوا بشفافيّة ويتحمّلوا مسؤوليّة أفعالهم."

بهذه الكلمات، خصّ البابا فرنسيس لبنان حصّة من خطابه أمام أعضاء السّلك الدّبلوماسيّ المعتمد لدى الكرسيّ الرّسوليّ، أثناء استقبالهم الإثنين الفاتيكان، لتبادل التّهاني بحلول العام الجديد، وقد قام خلاله كما العادة بجولة أفق على آخر التّطوّرات الدّوليّة، قائلاً بحسب الكرسيّ الرّسوليّ:

أصحاب السّعادة، سيّداتي وسادتي،

أشكر عميد السّلك الدّبلوماسيّ، صاحب السّعادة السّيّد جورج بوليديس، سفير قبرص، على الكلمات والتّمنّيات الرّقيقة الّتي أعْرَبَ عنها نيابةً عنكم جميعًا، وأعتذر أوّلًا وقبل كلّ شيء عن الإزعاج الذّي قد سبّبه لكم ربّما إلغاء اللّقاء الذّي كان مقرّرًا عقدُه في 25 كانون الثّاني/ يناير. أنا أشكركم على تفهّمكم وصبركم وأيضًا على قبولكم دعوتي للحضور هذا الصّباح، على الرّغم من الصّعوبات، من أجل لقائنا التّقليديّ.

نلتقي هذا الصّباح في المكان الأكثر اتّساعًا من قاعة البركات، احترامًا لضرورة وجود مسافة أكبر بين الأشخاص كما تفرضه علينا الجائحة. ومع ذلك، فإنّ المسافة هي جسديّة وحسب. فلقاؤنا اليوم يرمز إلى عكس ذلك. إنّه علامة على التّقارب، على ذاك التّقارب والدّعم المتبادل الذّي يجب أن تتطلّع إليه أسرة الأمم. فهو يشكّل، في زمن الجائحة هذا، واجبًا إلزاميًّا، وقد أصبح واضحًا للجميع أنّ الفيروس لا يعرف العوائق ولا يمكن عزله بسهولة. وبالتّالي، فإنّ التّغلّب عليه هو مسؤوليّة تقع على كلّ واحد منّا شخصيًّا، كما وعلى كلّ بلد من بلداننا.

لذلك، أنا ممتنّ لكم على الجهد الذّي تبذلونه يوميًّا لتعزيز العلاقات بين بلدانكم أو المنظّمات الدّوليّة الّتي تمثّلونها والكرسيّ الرّسوليّ. هناك العديد من شهادات التّقارب المتبادل الّتي استطعنا أن نتبادلها في الأشهر الأخيرة، كذلك بفضل استخدام التّقنيّات الجديدة، والّتي سمحت لنا بالتّغلّب على القيود الّتي سبّبتها الجائحة.

وممّا لا شكّ فيه أنّنا نطمح جميعًا لاستئناف اللّقاءات الحضوريّة في أقرب وقت ممكن، ولقاؤنا اليوم هو إشارة خير على هذا النّحو. إنّي أرغب كذلك في استئناف الزّيارات الرّسوليّة قريبًا، بدءًا من زيارة العراق المقرّرة في شهر آذار/مارس المقبل. إنّ الزّيارات، في الواقع، تشكّل جانبًا مهمًّا من رعاية خليفة بطرس لشعب اللّه المنتشر في جميع أنحاء العالم، كما ومن حوار الكرسيّ الرّسوليّ مع الدّول. علاوة على ذلك، غالبًا ما تكون هذه الزّيارات فرصةً مناسبة من أجل توطيد العلاقة بين الأديان المختلفة بروح من المشاركة والحوار. فالحوارُ بين الأديان يُعدُّ في عصرنا هذا، عنصرًا مهمًّا في تلاق الشّعوب والثّقافات. وعندما يُفهم، ليس على أنّه التّخلّي عن الهويّة الشّخصيّة بل مناسبة لمزيد من المعرفة والإثراء المتبادل، فإنّه يشكّل فرصةً للقادة الرّوحيّين وللمؤمنين من مختلف الطّوائف ويستطيع أن يدعم عمل القادة السّياسيّين في مسؤوليّتهم لبناء الخير العامّ.  

لا تقلّ أهمّيّة كذلك الاتّفاقيّات الدّوليّة الّتي تساعد على توطيد أواصر الثّقة المتبادلة وتسمح للكنيسة بالتّعاون بشكل أكثر فعاليّة من أجل الخير الرّوحيّ والاجتماعيّ في بلدانكم. ومن هذا المنظور، أودّ أن أشير هنا إلى تبادل صكوك التّصديق على الاتّفاقيّة الإطاريّة بين الكرسيّ الرّسوليّ وجمهوريّة الكونغو الدّيمقراطيّة، والاتّفاق المتعلّق بالوضع القانونيّ للكنيسة الكاثوليكيّة في بوركينا فاسو، فضلاً عن توقيع الاتّفاقية الإضافيّة السّابعة لمعاهدة تسوية العلاقات التّراثيّة الّتي يعود تاريخها إلى 23 حزيران/ يونيو 1960، بين الكرسيّ الرّسوليّ والجمهوريّة النّمساويّة. كذلك، وافق الكرسيّ الرّسوليّ وجمهوريّة الصّين الشّعبيّة، في تاريخ 22 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، على تمديد، لمدّة عامين آخرين، صلاحيّة الاتّفاق المؤقّت بشأن تعيين الأساقفة في الصّين، الذّي وُقِّع في بكين عام 2018. إنّه تفاهم ذات طابع راعويّ جوهريًّا ويأمل الكرسيّ الرّسوليّ استمرار المسار المُتَّخَذ، بروح الاحترام والثّقة المتبادلة، فيساهم بشكل أكبر في حلّ المسائل ذات الاهتمام المشترك.

أيّها السّفراء الأعزّاء،

لقد خلّفت السّنة المنتهية للتّوّ شحنةً من الخوف والأنّزعاج واليأس، إلى جانب الكثير من الحزن. وقد وضع الحزنُ النّاسَ في دوّامة من التّباعد والشّكّ المتبادل ودَفَع الدّول إلى إقامة الحواجز. فتحوّل العالم المترابط الذّي اعتدنا عليه إلى عالمٍ يشهد مجدّدًا التّشتّت والأنّقسام. ومع ذلك، فإنّ تداعيات الجائحة هي عالميّة حقًّا، لأنّها تشمل في الواقع البشريّة جمعاء وبلدان العالم، ولأنّها تؤثّر على العديد من جوانب حياتنا، وتساهم في تفاقم "الأزمات المترابطة فيما بينها، مثل أزمات المناخ والغذاء، والأزمات الاقتصاديّة والمتعلّقة بالهجرة"[1]. في ضوء هذا الاعتبار، ظننت أنّه من المناسب إنشاء لجنة كوفيد-19 تابعة للفاتيكان، بهدف تنسيق استجابة الكرسيّ الرّسوليّ والكنيسة للطّلبات الواردة من الأبرشيّات حول العالم، من أجل مواجهة الطّوارئ الصّحّيّة والاحتياجات الّتي أحدثتها الجائحة.

فقد بدا واضحًا منذ البداية في الواقع، أنّه سوف يكون للجائحة تأثيرًا كبيرًا على نمط الحياة الذّي اعتدنا عليه، وأنّها ستُفقِدنا قدرًا من الرّاحة واليقين المترسّخ. لقد أدخَلَتنا في أزمة، وأظهَرَت لنا وجه عالمٍ مريض ليس فقط بسبب الفيروس، ولكن أيضًا على مستوى البيئة، والعمليّات الاقتصاديّة والسّياسيّة، وخاصّة العلاقات الأنّسانيّة. وسَلَّطَت الضّوء على مخاطر وعواقب أسلوبَ حياةٍ تسوده الأنّانيّة وثقافة الاستبعاد، ووضَعَت أمامنا بديلًا: إمّا الاستمرار في الطّريق الذّي سلكناه حتّى الأنّ أو الشّروع في طريق جديد.

لذلك أودّ أن أركّز على بعض الأزمات الّتي سَبَّبَتها أو أبرَزَتها الجائحة، وأن أنظر في الوقت عينه في الفرص الّتي تنجم عنها من أجل بناء عالم أكثر إنسانيّة وعدلًا وتضامنًا وسلمًا.

الأزمة الصّحّيّة

لقد وضَعَتنا الجائحةُ مجدّدًا وبقوّة أمام بُعدَين للحياة البشريّة لا مفرّ منهما: المرض والموت. ولهذا السّبب بالتّحديد، فإنها تذكّر بقيمة الحياة، بقيمة كلّ حياة بشريّة وكرامتها، في كلّ لحظةٍ من مسيرتها الأرضيّة، منذ لحظة الحمل بها في الرّحم وحتّى نهايتها الطّبيعيّة. من المؤسف والمؤلم أنّه يبدو أنّ عددًا متزايدًا من التّشريعات في العالم يبتعد، تحت ذريعة ضمان الحقوق الذّاتيّة المزعومة، عن الواجب الأساسيّ في حماية الحياة البشريّة في كلّ مرحلة من مراحلها.

تُذَكِّرنا الجائحةُ أيضًا بالحقّ في الرّعاية، الذّي يعود لكلّ إنسان، كما أبرَزتُه أيضًا في رسالّتي بمناسبة اليوم العالميّ للسّلام، الذّي احتُفِلَ به في الأوّل من كانون الثاني/ يناير الماضي. "كلّ شخص بشريّ هو غاية في حدّ ذاته، وليس أبدًا مجرّد أداة تُقَدَّر وفقًا لفائدتها، وقد خُلِقَ لكي يعيش مع الآخرين في الأسرة، وفي الجماعة، وفي المجتمع، حيث يتساوى جميع الأعضاء في الكرامة. ومن هذه الكرامة تشتقّ حقوق الأنّسان، وكذلك الواجبات الّتي تُذكِّرُ، على سبيل المثال، بمسؤوليّة قبول ومساعدة الفقراء والمرضى والمُهمَّشين"[2]. إذا ألغَينا حقّ الأضعف في الحياة، فكيف يمكن أن نضمن جميع الحقوق الأخرى بشكل فعّال؟

ومن هذا المنظور، أجدّد ندائي من أجل أن يُعطى كلّ إنسان الرّعاية والمساعدة الّتي يحتاجها. وتحقيقًا لهذه الغاية، من الضّروريّ أن يعمل كلُّ من لديه مسؤوليّات سياسيّة وحكوميّة قبل كلّ شيء على تسهيل حصول الجميع على الرّعاية الصّحّيّة الأساسيّة، وأن يساعد كذلك على إنشاء المرافق الطّبّيّة المحلّيّة والهيكليّات الصّحّيّة المناسبة للاحتياجات الفعليّة للشّعوب، وعلى توفّر العلاجات والأدوية. فلا يمكن في الواقع، أن يكون منطق الرّبح هو الذّي يقود مثل هذا المجال الدّقيق الذّي هو مجال الرّعاية الصّحّيّة والعلاج.

من الضّروريّ أيضًا أن تستفيد البشريّة جمعاء من التّقدّم الطّبّي والعلميّ الكبير الذّي تمّ إحرازه على مرّ السّنين، والذّي سمح بتصنيع لقاحات، في وقت قصير جدًا، من المُتوقّع أن تكون فعّالة ضدّ فيروس الكورونا. لذلك فإنّي أحثّ جميع الدّول على المساهمة بفعاليّة في المبادرات الدّوليّة الهادفة إلى ضمان توزيع عادل للقاحات، ليس وفقًا لمعايير اقتصاديّة بحتة، ولكن مراعاةً لاحتياجات الجميع، لاسيّما الشّعوب الأكثر احتياجًا.

على أيّ حال، إزاء عدوّ متستر ومتقلّب مثل كوفيد-19، يجب أن يكون الحصولُ على اللّقاحات مصحوبًا بتصرّفات شخصيّة مسؤولة تهدف إلى منع انتشار المرض، من خلال الإجراءات الوقائيّة اللّازمة الّتي تعوّدنا عليها في الأشهر الأخيرة. فمِن الكارثيّ أن نضع ثقتنا في حصولنا على اللّقاح فقط، كما لو كان دواءً سحريًّا يستثني من التزام كلّ فرد بصحّتّه وصحّة الآخرين بشكل مستمرّ. لقد أظهَرَت لنا الجائحة أنّ ما من أحدٍ يستطيع أن ينعزل مثل "جزيرة"– عبارة مأخوذة عن الشّاعر الإنّجليزيّ الشّهير جون دون-، وأنّ "موت أيّ إنسان يقلّل منّي، لأنّني جزء من الإنّسانية"[3].

أزمة بيئيّة

ليس الإنسان وحده مريض، لكن أرضنا أيضًا. لقد بَيَّنت لنا الجائحةُ مجدّدًا مدى هشاشة الأرض وحاجتها إلى الرّعاية.

من المؤكّد أنّ هناك اختلافات كبيرة بين الأزمة الصّحّيّة النّاجمة عن الجائحة والأزمة البيئيّة النّاجمة عن الاستغلال العشوائيّ للموارد الطّبيعيّة. فهذا الأخير له بعدٌ دائمٌ وأكثر تعقيدًا، ويتطلّب حلولاً مشتركة طويلة الأجل. إنّ التّأثيرات في الواقع،- مثل تغيّر المناخ على سبيل المثال- سواء كانت مباشرة، كالظّواهر الجوّيّة القاسية مثل الفيضانات والجفاف، أو غير مباشرة، كسوء التّغذية أو أمراض الجهاز التّنفّسيّ، غالبًا ما تكون مشحونة بالعواقب الّتي تدوم فترة طويلة.

ويتطلّب حلّ هذه الأزمات تعاونًا دوليًّا لرعاية بيتنا المشترك. لذلك آمل أن يسمح مؤتمر الأمم المتّحدة للمناخ المقبل (COP26)، المقرّر عقده في تشرين الثّاني/ نوفمبر المقبل في غلاسكو، بالتّوصّل إلى اتّفاق فعّال للتّصدّي لعواقب تغيّر المناخ. هذا هو الوقت المناسب للعمل، لأنّنا نستطيع بالفعل أن نلمس لمس اليد آثار تقاعسٍ طال أمده.

إنّي أفكّر، على سبيل المثال، في تداعيات هذه الأزمات على العديد من الجزر الصّغيرة في المحيط الهادئ الّتي هي في خطر الزّوال التّدريجيّ. إنّها مأساة لا تؤدّي فقط إلى تدمير قرى بأكملها، بل تُجبِر أيضًا الجماعات المحلّيّة، وخاصّة العائلات، على التّنقّل باستمرار، وفقدان هويّتهم وثقافتهم. أفكّر كذلك في الفيضانات في جنوب شرق آسيا، وخاصّة في فيتنام والفلبّين، والّتي تسبّبت في وقوع ضحايا وتركت عائلات بأكملها دون مصدر رزق. ولا يمكننا الصّمت حيال الاحترار التّدريجيّ للأرض، الذّي تسبّب في حرائق مدمّرة في أستراليا وكاليفورنيا.  

هناك مصدر قلق شديد أيضًا في أفريقيا وهو تغيّر المناخ الذّي تفاقم بسبب التّدخّلات البشريّة المتهوّرة وبفعل الجائحة الحاليّة أيضًا. إنّي أشير أوّلًا وقبل كلّ شيء إلى انعدام الأمن الغذائيّ الذّي أصاب بشكل خاصّ العام الماضي بوركينا فاسو ومالي والنّيجر، حيث يعاني ملايين الأشخاص من الجوع؛ بالإضافة إلى الوضع في جنوب السّودان الذّي يواجه خطر حدوث مجاعة، وحيث تستمرّ حالةُ طوارئ إنسانيّة خطيرة: يعاني أكثر من مليون طفل من نقصٍ غذائيّ، في حين أنه يتمّ عرقلة الممرّات الإنّسانيّة، ويوضَع حدّ لوجود وكالات للإغاثة في تلك الأراضي. من أجل مواجهة هذا الوضع، من الضّروريّ العاجل أيضًا أن تتخطّى سلطات جنوب السّودان سوءَ التّفاهم وأن تواصل الحوار السّياسيّ من أجل مصالحة وطنيّة كاملة.  

أزمة إقتصاديّة واجتماعيّة

إنّ هدف احتواء فيروس الكورونا قد دفع العديد من الحكومات إلى اتّخاذ إجراءات تقييديّة على حرّيّة التّنقّل، أدّت منذ عدّة أشهر إلى إغلاق المؤسّسات التّجارية والتّباطؤ العام في الإنّتاج، الأمر الذّي خلّف تداعيات خطيرة على الشّركات، خاصّة المتوسّطة منها، أيّ على العمل وبالتّالي على حياة الأُسَر وعلى قطاعات كاملة من المجتمع، ولاسيّما الأضعف من بينها.

أمّا الأزمة الاقتصاديّة النّاتجة عن ذلك فقد سلّطَتِ الضّوءَ على مرض آخر أصاب عصرنا: مرض اقتصاد يقوم على استغلال واستبعاد كلًّا من الأشخاص والموارد الطّبيعيّة. لقد أهمَلنا التّضامنَ والقيم الأخرى الّتي تسمح للاقتصاد بأن يكون في خدمة التّنمية البشريّة المتكاملة، بدلاً من المصالح الخاصّة، وفَقَدنا القيمة الاجتماعيّة للنّشاط الاقتصاديّ، وغاب عن بالنا أنّ الخيرات والموارد إنّما هي للجميع.

إن الأزمة الحاليّة هي الفرصة المناسبة لإعادة التّفكير في العلاقة بين الشّخص والاقتصاد. نحن بحاجة إلى نوع من "ثورة كوبرنيكيّة جديدة" تضع الاقتصادَ في خدمة الإنّسان وليس العكس، "من خلال البدء في دراسة وممارسة اقتصاد مختلف، يجعلنا نعيش ولا نقتل، نشمل ولا نستبعد، ونضفي بعض الإنسانيّة ولا نجرّد منها، نعتني بالخليقة ولا ننهبها"[4].

إنّ العديد من الحكومات، وبهدف مواجهة التّبعات السّلبيّة لهذه الأزمة، قد خطّطت لمبادرات مختلفة ولتمويل كبير مخصّص. ومع ذلك، غالبًا ما تغلّبت فكرة البحث عن حلول خاصّة لمشكلة لها بالأحرى أبعاد عالميّة. وهذا ما لا يمكننا التّفكير بصنعه اليوم بشكل فرديّ. هناك حاجة إلى مبادرات مشتركة ومتقاسَمة على المستوى الدّوليّ، ولاسيّما لدعم العمل وحماية الفئات الأشدّ فقرًا من الشّعب. ومن هذا المنظور، إنّي أرى أهمّيّة الالتّزام من جانب الاتّحاد الأوروبّيّ ودوله الأعضاء الذّي تمكّن، على الرّغم من الصّعوبات، من إظهار أنّه باستطاعتنا العمل بجهد من أجل التّوصّل إلى تسويات مرضيّة لصالح جميع المواطنين. إنّ التّمويل المخصّص الذّي اقترحته خطّة  الجيل القادم للاتّحاد الأوروبيّ هو مثال هامّ على أنّ التّعاون وتقاسم الموارد بروح من التّضامن لا يشكّلان فقط هدفًا منشودًا بل أنّه من الممكن بلوغه.

أثّرت الأزمة بشكل رئيسيّ، في أجزاء كثيرة من العالم، على العامِلين في القطاعات غير الرّسميّة، الذّين كانوا أوّل من فقدوا مصدر عيشهم. وبما أنّهم يعيشون خارج هوامش الاقتصاد الرّسميّ، لا يمكنهم حتى الحصول على الدّعم الاقتصاديّ الاجتماعيّ، بما في ذلك التّأمين ضدّ البطالة والرّعاية الصّحّيّة. هكذا، وبدافع اليأس، سعى الكثيرون إلى الحصول على أشكال أخرى من الدّخل، وعرّضوا أنفسهم للاستغلال من خلال العمل غير القانونيّ أو القسريّ، والبغاء والأنشطة الإجراميّة المختلفة، بما في ذلك الاتّجار بالبشر.

لكن في الحقيقة، يحقّ لكلّ إنسان–يحقّ له- ويجب إعطاؤه إمكانيّة الحصول على "الوسائل الضّروريّة والكافية لتحقيق مستوى معيشيّ كريم"[5]. من الضّروريّ في الواقع ضمان الاستقرار الاقتصاديّ للجميع من أجل تجنّب آفات الاستغلال ومحاربة المراباة والفساد الّتي يعاني منها العديد من دول العالم، والعديد من المظالم الأخرى الّتي تُمارَس يوميًّا أمام أعين مجتمعنا المعاصر المتعبة والمشتّتة.

كما وقد أدّى البقاء في المنزل لفترة طويلة إلى قضاء المزيد من الوقت أمام أجهزة الكمبيوتر ووسائل الإعلام الأخرى، وإلى تداعيات خطيرة على الأشخاص الأكثر ضعفًا، وخاصّة الفقراء والعاطلين عن العمل. وهم يشكّلون فريسة أسهل للجرائم الإلكترونيّة- جرائم الإنترنت- في أكثر جوانبها تجريدًا من الإنسانيّة: من الاحتيال إلى الاتّجار بالبشر، واستغلال الدّعارة، بما في ذلك بغاء الأطفال، وكذلك المواد الّتي تتناول صورًا إباحيّة للأطفال.

كما أدّى إغلاق الحدود بسبب الجائحة، إضافة إلى الأزمة الاقتصاديّة، إلى تفاقم حالات الطّوارئ الإنسانيّة المختلفة، سواء في مناطق النّزاع أو في المناطق المتضرّرة من تغيّر المناخ والجفاف، وكذلك في مخيّمات اللّاجئين والمهاجرين. أفكّر بشكل خاصّ في السّودان، حيث لجأ الآلاف من الأشخاص الفارّين من منطقة تيغراي، وكذلك في بلدان أخرى من أفريقيا جنوب الصّحراء الكبرى، أو في منطقة كابو ديلجادو في موزمبيق، حيث اضطرّ الكثيرون على مغادرة أراضيهم، وهم الآن في ظروف محفوفة بالمخاطر. أتوجّه بفكري أيضًا إلى اليمن وسوريا الحبيبة، حيث، بالإضافة إلى حالات الطّوارئ الخطيرة الأخرى، يعاني جزءٌ كبير من السّكّان من انعدام الأمن الغذائيّ، والأطفال مرهقون بسبب سوء التّغذية.

وتتفاقم الأزمات الإنسانيّة في العديد من الحالات، بسبب العقوبات الاقتصاديّة الّتي غالبًا ما تنعكس بشكل رئيسيّ على الفئات الأضعف من السّكّان، بدلًا من القادة السّياسيّين. بالتّالي، ومع أن الكرسيّ الرّسوليّ يفهم منطق العقوبات، فإنّه لا يرى فعاليّتها، ويأمل في تخفيفها وذلك أيضًا بهدف تسهيل إيصال المساعدات الإنسانيّة، وخاصّة الأدوية والأدوات الصّحّيّة، وهي ضروريّة للغاية في زمن الجائحة هذا.

وليكن الظّرف الذّي نمرّ به هو حافزًا أيضًا لإلغاء، أو على الأقلّ لتخفيض، الدّيون الّتي صارت عبئًا على أفقر البلدان والّتي تمنع في الواقع تعافيها وتنميتها الكاملة.

كما شهد العام الماضي زيادة أخرى في عدد المهاجرين، الّذين اضطرّوا، بسبب إغلاق الحدود، إلى اللّجوء إلى طرق تزداد خطورة أكثر فأكثر. كما شهد تدفّق الهجرة زيادة في عدد حالات الرّفض غير القانونيّ الذّي غالبًا ما يهدف إلى منع المهاجرين من طلب اللّجوء، في انتهاكٍ لمبدأ عدم الإعادة القسريّة (non-refoulement). كما يتمّ اعتراض العديد منهم وإعادتهم إلى مخيّمات التّجميع والاعتقال، حيث يتعرّضون للتّعذيب ولانتهاكات حقوق الإنسان، هذا إنْ لم يَلقَوا حتفهم عند عبورهم البحار والحدود الطّبيعيّة الأخرى.

إنّ الممرّات الأنّسانيّة، الّتي أُقيمت خلال السّنوات القليلة الماضية، تساهم بالتّأكيد في معالجة بعض المشاكل المذكورة أعلاه، وتنقذ العديد من الأرواح. ولكن بحكم حجم الأزمة قد أصبح من الضّروريّ والعاجل معالجة الأسباب الّتي تدفع إلى الهجرة من جذورها، فضلًا عن بذل جهد مشترك لدعم دول الاستقبال الأوّليّ، الّتي تأخذ على عاتقها الواجب الخُلُقيّ بإنقاذ الأرواح. وفي هذا الصّدد، ننتظر باهتمام التّفاوض على الميثاق الجديد للاتّحاد الأوروبيّ بشأن الهجرة واللّجوء، مع الملاحظة أنّ السّياسات والآليّات الملموسة لن تنجح إذا لم تدعمها الإرادة السّياسيّة الضّروريّة واجتهاد جميع الأطراف المعنيّة، بما في ذلك المجتمع المدنيّ والمهاجرون أنفسهم.

إنّ الكرسيّ الرّسوليّ يقدّر جميع الجهود المبذولة لصالح المهاجرين ويدعم التزام المنظّمة الدّوليّة للهجرة (IOM)، الّتي تصادف هذا العام الذّكرى السّبعون لتأسيسها، في التّطبيق الكامل للقيم الواردة في دستورها ولثقافة الدّول الأعضاء الّتي تعمل فيها المنظّمة. وبالمثل، فإنّ الكرسيّ الرّسوليّ، بصفته عضوًا في المفوّضية السّامية للأمم المتّحدة لشؤون اللّاجئين (UNHCR)، يظلّ أمينًا للمبادئ المنصوص عليها في اتّفاقيّة جنيف لعام 1951 المتعلّقة بوضع اللّاجئين، ولبروتوكول عام 1967، اللّذان يحدّدان التّعريف القانونيّ للّاجئين وحقوقهم، فضلًا عن الالتزام القانونيّ للدّول في حمايتهم.  

لم يشهد العالم، منذ الحرب العالميّة الثّانية، زيادةً مأساويّة في عدد اللّاجئين مثل الّتي نشهدها اليوم. لذلك، فمن الضّروريّ تجديد التّعهّد بحمايتهم، وحماية النّازحين أيضًا وجميع المُستَضعَفين الذّين أُجبروا على الهروب من الاضطهاد والعنف والصّراعات والحروب. وفي هذا الصّدد، وعلى الرّغم من الجهود المهمّة الّتي تبذلها الأمم المتّحدة في البحث عن حلول ومقترحات ملموسة لمعالجة مشكلة التّهجير القسريّ بشكل متّسق، فإنّ الكرسيّ الرّسوليّ يُعرِب عن قلقه إزاء أوضاع النّازحين في مختلف أنحاء العالم. وأشير أوّلًا وقبل كلّ شيء إلى المنطقة الوسطى من السّاحل الأفريقيّ، حيث زاد عددُ النّازحين عشرين ضعفًا في أقلّ من عامين.

الأزمة السّياسيّة

إنّ المسائل الحرجة الّتي ذكرتُها حتّى الآن تسلِّط الضّوءَ على أزمة أعمق بكثير، والّتي هي في أصل المشكلات الأخرى بطريقة أو بأخرى، والّتي ظهرت مأساتها بفعل الجائحة على وجه التّحديد. إنّها الأزمة السّياسيّة الّتي طالتّ العديدَ من المجتمعات منذ زمن والّتي ظهرت آثارها المضنية أثناء الجائحة.

وأحد العوامل الرّمزيّة لهذه الأزمة هو نموّ المعارضة السّياسيّة وصعوبة- هذا إن لم يكن استحالة-، البحث عن حلول مشتركة ومتقاسمة للمشاكل الّتي يعاني منها كوكبنا. ونرى هذا المَيل، منذ بعض الوقت، ينتشر أكثر فأكثر حتّى في البلدان ذات التّقاليد الدّيمقراطيّة القديمة. وأصبح الحفاظ على الحقائق الدّيمقراطيّة يمثّل تحدّيًا في هذا الزّمن التّاريخيّ[6]، وهذا يطال عن قرب جميعَ الدّول: سواء كانت صغيرة أو كبيرة، متقدّمة اقتصاديًّا أو نامية. وأفكّر بشكل خاصّ في هذه الأيّام في شعب ميانمار وأعبّر له عن محبّتي وقربي. لقد تسبّب انقلابُ الأسبوع الماضي بوقفٍ مفاجئ للمسيرة الّتي بدأت في السّنوات الأخيرة نحو الدّيمقراطية. وقد أدّى إلى سجن العديد من القادة السّياسيّين، الذّين آمل أن يُطلق سراحهم سريعًا، دليلًا على تشجيعِ حوارٍ صادق لصالح خير البلاد.

ومن ناحية أخرى، كما أكّد بيوس الثّاني عشر في رسالته الصّوتيّة الّتي لا تُنسى بمناسبة عيد الميلاد عام 1944: "أن يعبّر المواطنُ عن رأيه في الواجبات والتّضحيات الّتي تُفرَض عليه؛ ألّا يُجبَرَ على الطّاعة دون أن يتمّ الإصغاء له: هما حقّان يجدان تعبيرهما في الدّيمقراطيّة كما يشير عليه اسمها بالذّات"[7]. تقوم الدّيمقراطيّة على الاحترام المتبادل، وعلى إمكانيّة مساهمة الجميع في خير المجتمع، وعلى اعتبار أنّ الآراء المختلفة لا تقوّض سلطة الدّول وأمنها، بل إنّها تثري بعضها البعض، في نقاش صريح، وتسمح بإيجاد حلول مناسبة للمشاكل الّتي يجب مواجهتها. وتتطلّب العمليّة الدّيمقراطيّة اتّباع مسيرة حوار إدماجيّ وسلميّ وبنّاء ومُحترِم بين جميع مكوّنات المجتمع المدنيّ في كلّ مدينة وأمّة. إنّ الأحداث الّتي اتّصف بها العام الماضي من الشّرق إلى الغرب، وإن كانت بطرق وسياقات مختلفة، وحتّى- أكرّر- في بلدان ذات تقاليد ديمقراطيّة قديمة، تُظهِر أنّه لا مفرّ من هذا التّحدّي وأنّنا لا نستطيع الاعتذار عن الواجب الخُلُقيّ والاجتماعيّ بمواجهتها عبر موقف إيجابيّ. إنّ تنمية الضّمير الدّيمقراطيّ تتطلّب تخطّي النّزعة الشّخصانيّة واحترام سيادة القانون. فالقانون في الواقع، هو الشّرط الأساسيّ الذّي لا غنى عنه من أجل ممارسة أيّ سلطة ويجب أن تضمنه الهيئات المسؤولة بغضّ النّظر عن المصالح السّياسيّة المهيمنة.

لكن الأزمة السّياسيّة والقيم الدّيمقراطيّة لها للأسف عواقب على المستوى الدّولي أيضًا، مع تداعيات على كامل المنظومة المتعدّدة الأطراف وما ينتج عنها بالطّبع من خرقٍ لفعاليّة المنظّمات الّتي تهدف إلى تعزيز السّلام والتّنمية- على أساس القانون وليس قانون "البقاء للأقوى"-. ولا يمكن الإغفال طبعًا عن أنّ المنظومة المتعدّدة الأطراف قد أظهرت أيضًا بعض القيود على مدى السّنوات القليلة الماضية. أمّا الجائحة فتشكّل فرصةً لا يجب تضييعها من أجل التّفكير في إصلاحات عضويّة وتنفيذها، لكي تعود المنظّمات الدّوليّة فتكتشف مجدّدًا رسالتها الأساسيّة في خدمة الأسرة البشريّة من أجل الحفاظ على حياة كلّ شخص وعلى السّلام.

إنّ إحدى علامات الأزمة السّياسيّة بالتّحديد هي التّردّد الذّي غالبًا ما يحدث عند الشّروع في مسارات الإصلاح. يجب ألّا نخاف من الإصلاحات، حتّى لو كانت تتطلّب تضحيات وغالبًا أيضًا تغييرًا للعقليّة. فإنّ كلّ جسم حيّ يحتاج إلى إصلاح ذاتيّ باستمرار، وفي هذا المنظور تندرج أيضًا الإصلاحات القائمة في الكرسي الرّسوليّ والكوريا الرّومانيّة.

على أيّ حال، هناك بوادر مشجّعة، مثل دخول معاهدة حظر الأسلحة النّوويّة حيّز التّنفيذ قبل أيّام قليلة، فضلًا عن التّمديد، لمدّة خمس سنوات أخرى، لمعاهدة خفض الأسلحة الهجوميّة الاستراتيجيّة (الّتي تُسمّى بـمعاهدة ستارت الجديدة New START) بين الاتّحاد الرّوسيّ والولايات المتّحدة الأميركيّة. من ناحية أخرى، كما كرّرت أيضًا في الرّسالة العامّة الأخيرة Fratelli tutti، "إذا أخذنا في الاعتبار التّهديدات الجوهريّة للسّلام وللأمن في أبعاده المتعدّدة في هذا العالم المتعدّد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين، [...] فسوف تظهر شكوك عديدة حول ملاءمة الرّدع النّوويّ لمواجهة هذه التّحدّيات بفعالية"[8]. في الواقع، لا يمكن أن يكون "مستدامًا التّوازنُ القائم على الخوف، عندما يميل هذا التّوازن في الواقع إلى زيادة الخوف وتقويض علاقات الثّقة بين الشّعوب"[9].  

إنّ الجهود المبذولة في مجال نزع السّلاح وعدم انتشار الأسلحة النّوويّة، الّتي يجب تكثيفها على الرّغم من الصّعوبات والتّحفّظات، ينبغي أن تُبذَل أيضًا في مجال الأسلحة الكيميائيّة والأسلحة التّقليديّة. هناك الكثير من الأسلحة في العالم! قال القدّيس يوحنّا الثّالث والعشرون عام 1963: "إنّ العدالة والحكمة والرّوح الإنسانيّة تطالب بالتّالي بإيقاف سباق التّسلّح هذا، وبتخفيض الأسلحة الجاهزة اليوم تخفيضًا متوازيًا ومتزامنًا في مختلف البلدان"[10]. وبينما يزداد العنف مع حشد الأسلحة على كلّ المستويات ونرى من حولنا عالمًا تمزّقه الحروب والانقسامات، نشعر أكثر فأكثر بالحاجة إلى السّلام، إلى سلام لا يكون "مجرّد غياب للحرب بل حياة غنيّة بالمعنى، تُبنى وتُعاش في تحقيق الذّات وفي مشاركة أخويّة مع الآخرين"[11].

كم أتمنّى أن يكون عام 2021 هو العام الذّي تُكتَب فيه نهاية الصّراع السّوريّ الذّي بدأ قبل عشر سنوات! ولكي يحدث هذا، هناك حاجة أيضًا إلى اهتمام متجدّد من جانب المجتمع الدّوليّ لمواجهة أسباب الصّراع بجدّيّة وشجاعة، وللبحث عن حلول يمكن من خلالها للجميع، بغضّ النّظر عن الانتماء العرقيّ والدّينيّ، أن يساهموا في مستقبل البلاد بصفتهم مواطنين.

أوجّه أمنيتي في السّلام إلى الأرض المقدّسة بالتّأكيد. يجب أن تكون الثّقةُ المتبادلة بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين الأساسَ من أجل تجديد حوار مباشر حاسم بين الطّرفين، لحلّ صراع مستمرّ طال أمده. وأدعو المجتمع الدّوليّ إلى دعم وتسهيل هذا الحوار المباشر، دون افتراض إملاء حلول لا تحمل في أفقها خيرَ الجميع. أنا متأكّد من أنّ الفلسطينيّين والإسرائيليّين على حدّ سواء لديهم الرّغبة في العيش بسلام.

وأتمنّى كذلك تجديد الالتزام السّياسيّ الوطنيّ والدّوليّ من أجل تعزيز استقرار لبنان، الّذي يمرّ بأزمة داخليّة والمُعرَّض لفقدان هويّته ولمزيد من التّورّط في التّوتّرات الإقليميّة. من الضّروريّ للغاية أن يحافظ البلد على هويّته الفريدة، وذلك أيضًا من أجل ضمان شرق أوسط متعدّد ومتسامح ومتنوّع، حيث يستطيع الوجود المسيحيّ أن يقدّم مساهمته وألّا يقتصر على أقلّيّة يجب حمايتها. إنّ المسيحيّين يشكّلون النّسيج الرّابط التّاريخيّ والاجتماعيّ للبنان، ومن خلال الأعمال التّربويّة والصّحّيّة والخيريّة العديدة، يجب أن تُضمَنَ لهم إمكانيّة الاستمرار في العمل من أجل خير البلد الذّي كانوا من مؤسّسيه. فقد يتسبّب إضعافُ الوجود المسيحيّ بفقدان التّوازن الدّاخليّ والواقع اللّبنانيّ نفسه. ومن هذا المنظور، يجب أيضًا معالجة وجود اللّاجئين السّوريّين والفلسطينيّين. فالبلد إضافة لذلك، دون عمليّة عاجلة لإنعاش الاقتصاد وإعادة الإعمار، مُعرّض لخطر الإفلاس، مع ما قد ينتج عنه من انحرافات أصوليّة خطيرة. لذلك فمن الضّروريّ أن يتعهّد جميع القادة السّياسيّين والدّينيّين، واضعين جانبًا مصالحهم الخاصّة، بالسّعي لتحقيق العدالة وتنفيذ إصلاحات حقيقيّة لصالح المواطنين، فيتصرّفوا بشفافيّة ويتحمّلوا مسؤوليّة أفعالهم.

أتمنّى أيضًا أن يحلّ السّلام في ليبيا، الّتي أضناها أيضًا صراع طويل، على أمل أن يسمح "منتدى الحوار السّياسيّ اللّيبي" الأخير، الذّي عُقد في تونس في تشرين الثّاني/ نوفمبر الماضي تحت رعاية الأمم المتّحدة، بأن تُطلَق فعليًّا عمليّة المصالحة المنتظرة في البلاد.

هناك مناطق أخرى من العالم تشكّل أيضًا مصدرًا للقلق. أشير أوّلًا وقبل كلّ شيء إلى التّوتّرات السّياسيّة والاجتماعيّة في جمهوريّة أفريقيا الوسطى. وكذلك تلك الّتي تتعلّق بأميركا اللّاتينيّة بشكل عامّ، والّتي يعود أصلها إلى التّفاوتات الكبيرة والظّلم والفقر، الّتي تجرح كرامة الأشخاص. إنّي أتابع باهتمام خاصّ أيضًا تدهور العلاقات في شبه الجزيرة الكوريّة، الّذي بلغ ذروته في تدمير مكتب الاتّصال بين الكوريّتين في كايسونغ؛ وكذلك الوضع في جنوب القوقاز، حيث لا تزال هناك عدّة صراعات مجمّدة، تأجّج بعضها خلال العام الماضي، ممّا يُضعف الاستقرار والأمن في المنطقة بأكملها.

أخيرًا، لا يمكنني أن أنسى آفة خطيرة أخرى في عصرنا هذا: الإرهاب، الّذي يحصد كلّ عام ضحايا عديدة من السّكّان المدنيّين العزّل في جميع أنحاء العالم. لم يَكفّ هذا الشّرّ عن التّزايد منذ سبعينيّات القرن الماضي، وبلغ ذروته في الهجمات الّتي طالت الولايات المتّحدة الأميركيّة يوم 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001 وقتلت قرابة ثلاثة آلاف شخص. وقد ارتفع للأسف عدد الهجمات في السّنوات العشرين الماضية، وطال دولاً مختلفة في جميع القارّات. أشير بشكل خاصّ إلى الإرهاب الّذي يضرب قبل كلّ شيء أفريقيا جنوب الصّحراء، ولكن أيضًا آسيا وأوروبا. وأتوجّه بفكري إلى جميع الضّحايا وإلى عائلاتهم، الّذين رأوا العنف الأعمى يسرق أحبّاءهم منهم، وذلك بسبب تحريف أيديولوجيّ للدّين. وبالإضافة، فإنّ هذه الهجمات غالبًا ما تستهدف أماكن العبادة بالتّحديد، حيث يجتمع المؤمنون للصّلاة. وفي هذا الصّدد أودّ التّأكيد على أنّ حماية دور العبادة هي نتيجة مباشرة للدّفاع عن حرّيّة الفكر والوجدان والدّين، وهي واجب على السّلطات المدنيّة بغضّ النّظر عن اللّون السّياسيّ والانتماء الدّينيّ.

أصحاب السّعادة، سيّداتي وسادتي،

أقترب الآن من ختام هذه الاعتبارات، وأودّ أن أتطرّق مرّة أخرى إلى أزمة أخيرة واحدة، والّتي هي ربّما أخطر الأزمات: أزمة العلاقات البشريّة، الّتي هي تعبير عن أزمة أنثروبولوجيّة عامّة، والّتي تتعلّق بمفهوم الشّخص ذاته وكرامته السّامية.

لقد أظهَرَت الجائحة، الّتي أجبرتنا على قضاء أشهر طويلة من العزلة والوحدة غالبًا، حاجةَ كلّ شخص إلى العلاقات الإنسانيّة. أفكّر أوّلاً في جميع الطّلّاب الذّين لم يتمكّنوا من الذّهاب إلى المدرسة أو الجامعة بانتظام. "جرت محاولة في كلّ مكان لإعطاء الإجابة السّريعة، من خلال المنصّات التّربويّة المعلوماتيّة. وقد أظهرت هذه المنصات، ليس فقط تفاوتًا ملحوظًا في الفرص التّربويّة والتّكنولوجيّة، ولكن أيضًا، بسبب الحجر المنزليّ والعديد من أوجه القصور الأخرى الموجودة، أنّ العديد من الأطفال والمراهقين تأخّروا في العمليّة الطّبيعيّة للتّطوّر التّربويّ"[12]. بالإضافة إلى ذلك، إنّ التّوسّع في استخدام التّعلّم عن بُعد قد أدّى أيضًا إلى زيادة "إدمان" الأطفال والمراهقين على الإنترنت، وبشكل عامّ على أشكال الاتّصال الافتراضيّ، ممّا يعرّضهم أكثر للخطر ولأن يقعوا ضحيّة الأنشطة الإجراميّة عبر الإنترنت.

إنّنا نشهد نوعًا من "كارثة تربويّة". أودّ أن أكرّر: إنّنا نشهد نوعًا من "كارثة تربويّة"، لا يمكن أن نبقى خاملين أمامها، من أجل خير الأجيال القادمة والمجتمع بأسره. "هناك حاجة اليوم إلى مرحلة جديدة من الالتزام التّربويّ تُشارك فيه جميع مكوّنات المجتمع"[13]، لأنّ التّعليم هو "المضادّ الطّبيعيّ للثّقافة الفرديّة، الّتي تتدنَّى أحيانًا فتصير العبادة الحقيقيّة للأنا وتعطي الأولويّة للّامبالاة. لا يمكن أن يكون مستقبلنا انقسامًا وإفقارًا لقدرة الفكر والخيال والإصغاء والحوار والتّفاهم المتبادل"[14].

ومع ذلك، فإنّ فترات الحجر الصّحّيّ الطّويلة سمحت أيضًا بقضاء المزيد من الوقت مع العائلة. كان هذا الوقت بالنّسبة للكثيرين، وقتًا مهمًّا لإعادة اكتشاف العلاقات مع الأشخاص الأعزّاء. من ناحية أخرى، إنّ "الزّواج والعائلة يشكّلان إحدى أغلى القيم الإنسانيّة"[15] ومهد كلّ مجتمع مدنيّ. وقد ذكّر به البابا العظيم القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، الّذي احتفلنا العام الماضي بالذّكرى المئويّة لميلاده، في تعليمه القيّم عن الأسرة:"- نظرًا لما تأخذه في أيّامنا، مختلف القضايا الاجتماعيّة، من أبعاد عالميّة، ترى العائلة وظيفتها المتعلّقة بتطوير المجتمع تتّسع اتّساعًا جديدًا [...] بما تقدّم من خدمة تربويّة، أيّ بإعطاء الأولاد مَثَل حياة تعتمد الحقيقة والحرّيّة والعدالة والمحبّة قاعدة لها"[16]. ومع ذلك، لم يكن باستطاعة الجميع أن يعيش بسلام في منزله وقد تحوّلت بعض حالات التّعايش إلى عنف منزليّ. أحثّ الجميع، السّلطات العامّة والمجتمع المدنيّ، على دعم ضحايا العنف الأسريّ: فنحن نعلم للأسف أنّ النّساء، وغالبًا مع أطفالهن، هم مَن يدفعون الثّمن الأعلى.

إنّ الحاجة إلى احتواء انتشار الفيروس قد خلّفت تداعيات على مختلف الحرّيّات الأساسيّة، بما في ذلك حرّيّة الدّين، وحَدَّت أيضًا من تأدية الشّعائر الدّينيّة والأنشطة التّربويّة والخيريّة للجماعات الدّينيّة. ومع ذلك، لا ينبغي الإغفال عن أنّ البُعد الدّينيّ يشكّل جانبًا أساسيًّا من الإنسان ومن المجتمع، لا يمكن إخفاؤه. وأنّه على الرّغم من محاولة حماية الأرواح البشريّة من انتشار الفيروس، لا يمكن اعتبار البعدَ الرّوحيّ والأخلاقيّ للشّخص ثانويًّا بالنّسبة للصّحّة الجسديّة.

وبالإضافة، إنّ حرّيّة العبادة ليست نتيجة طبيعيّة لحرّيّة التّجمّع، ولكنّها تنبع أساسًا من الحقّ في الحرّيّة الدّينيّة، وهي حقّ الإنسان الأوّل والأساسيّ. لذلك من الضّروريّ أن تحترمها السّلطاتُ المدنيّة وتحميها وتدافع عنها، مثل الصّحّة والسّلامة الجسديّة. من ناحية أخرى، لا يمكن فصل العناية الجيّدة بالجسم عن العناية بالرّوح.

في رسالة إلى كانغراندي ديلا سكالا، أشار دانتي أليغييري إلى هدفه من ملحمته الشّعريّة  الكوميديا الإلهّية: "أن أُخرِج الّذين يعيشون هذه الحياة من حالة البؤس وأقودهم إلى حالة السّعادة"[17]. فهذا هو أيضًا دور كلّ من السّلطات الدّينيّة والمدنيّة، وإن كان بأدوار مختلفة وفي مجالات مختلفة. إنّ أزمة العلاقات الإنسانيّة، وبالتّالي الأزمات الأخرى الّتي ذكرتها، لا يمكن تجاوزها إلّا بالحفاظ على الكرامة السّاميّة لكلّ إنسان مخلوق على صورة الله ومثاله.

إذ أذكر الشّاعر الفلورنسيّ العظيم، الذّي تصادف الذّكرى المئويّة السّابعة لوفاته هذا العام، أودّ أيضًا أن أذكر بشكل خاصّ الشّعب الإيطاليّ، الذّي كان أوّل من واجه العواقب الوخيمة للجائحة في أوروبا، وأحثّه على عدم السّماح للصّعوبات الحاليّة بأن تحبطه، بل على العمل معًا لبناء مجتمع لا يُستَبعد فيه أحد أو يُنسى.

 

أيّها السّفراء الأعزّاء،

عام 2021 هو وقت لا ينبغي تفويته. ولن نضيّعه إذا عرفنا كيف نتعاون بسخاء واجتهاد. بهذا المعنى، أعتقد أنّ الأخوّة هي العلاج الحقيقيّ للجائحة وللكثير من الشّرور الّتي أصابتنا. الأخوّة والرّجاء هما بمثابة أدوية يحتاج إليها العالم اليوم، مثل حاجته للقاحات.

التّمس لكلّ فرد منكم ولبلدانكم فائضًا من النّعم السّماويّة، مع تمنّياتي بأن تكون هذه السّنة مناسبة لتعميق أواصر الأخوّة الّتي تربط الأسرة البشريّة بأكملها.      

شكرًا!"