البابا عن شهداء وشهود الإيمان: لا أحد يمكنه أن يسكت صوتهم أو يمحو المحبّة الّتي قدّموها
خلال القدّاس، ألقى البابا عظة استهلّها بكلمات الرّسول بولس: "أمّا أنا فمعاذ الله أن أفتخر إلّا بصليب ربّنا يسوع المسيح"، فقال بحسب "فاتيكان نيوز": "إنّ كلمات الرّسول بولس، الّذي نجتمع اليوم عند ضريحه، تُدخلنا في أجواء إحياء ذكرى شهداء وشهود الإيمان في القرن الحادي والعشرين، في عيد ارتفاع الصّليب المقدّس. عند أقدام صليب المسيح، خلاصنا، الّذي تصفه اللّيتورجيا بأنّه "رجاء المسيحيّين" و"مجد الشّهداء"، أحيّي ممثّلي الكنائس الأرثوذكسيّة والكنائس الشّرقيّة القديمة والجماعات الكنسيّة والمنظّمات المسكونيّة، وأشكرهم على تلبية دعوتي للمشاركة في هذا الاحتفال. وإليكم جميعًا أوجّه عناقي؛ عناق سلام!
نحن مقتنعون بأنّ الشّهادة حتّى الموت هي "أعمق أشكال الشّركة مع المسيح الّذي سفك دمه، وبهذه الذّبيحة يجعل قريبين أولئك الّذين كانوا في الماضي بعيدين". واليوم أيضًا يمكننا أن نكرّر مع القدّيس يوحنّا بولس الثّاني أنّه حيثما بدا أنّ الكراهيّة تتغلغل في كلّ جوانب الحياة، أظهر هؤلاء الخدّام الشّجعان للإنجيل، شهداء الإيمان، بشكل جليّ أنّ "المحبّة هي أقوى من الموت". نتذكّر إخوتنا وأخواتنا هؤلاء وأنظارنا شاخصة إلى المصلوب. بصليبه أظهر لنا يسوع الوجه الحقيقيّ لله، ورحمته اللّامتناهية تجاه البشريّة؛ أخذ على عاتقه كراهيّة العالم وعنفه، لكي يشارك مصير جميع الّذين يُهانون ويُظلمون: "لقد حمل آلامنا واحتمل أوجاعنا".
يقول كثيرون من الإخوة والأخوات اليوم أيضًا، بسبب شهادتهم للإيمان في ظروف قاسية وسياقات عدائيّة، يحملون صليب الرّبّ ذاته: فهم مثله يُضطهدون، يُدانون، ويُقتلون. ويقول يسوع عنهم: "طوبى للمضطهدين على البرّ فإنّ لهم ملكوت السّماوات. طوبى لكم، إذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كلّ كذب من أجلي". إنّهم نساء ورجال، راهبات ورهبان، علمانيّون وكهنة، دفعوا حياتهم ثمنًا لأمانتهم للإنجيل، وللالتزام بالعدالة، وللنّضال من أجل الحرّيّة الدّينيّة حيث لا تزال منتهكة، ولتضامنهم مع الفقراء. وبحسب مقاييس العالم، اعتُبروا "مهزومين". لكن في الحقيقة، كما يقول كتاب الحكمة: "ومع أنّهم قد عوقبوا في عيون النّاس؛ فرجاؤهم مملوء خلودًا".
أيّها الإخوة والأخوات، خلال السّنة اليوبيليّة، نحتفل برجاء شهود الإيمان الشّجعان هؤلاء. إنّه رجاء مملوء بالخلود، لأنّ شهادتهم تواصل نشر الإنجيل في عالم مطبوع بالكراهيّة والعنف والحرب؛ رجاء مملوء بالخلود، لأنّهم وإن قُتلوا في الجسد، إلّا أنّ لا أحد يمكنه أن يُسكت صوتهم أو يمحو المحبّة الّتي قدّموها؛ رجاء مملوء بالخلود، لأنّ شهادتهم تبقى نبوءة لانتصار الخير على الشّرّ. نعم، رجاؤهم هو رجاء أعزل. لقد شهدوا للإيمان بدون أن يستخدموا سلاح القوّة أو العنف، بل عانقوا قوّة الإنجيل الوديعة والضّعيفة، بحسب كلمات الرّسول بولس: "فإنّي بالأحرى أفتخر راضيًا بحالات ضعفي لتحلّ بي قدرة المسيح… لأنّي عندما أكون ضعيفًا أكون قويًّا".
أُفكِّر بالقوّة الإنجيليّة للأخت دوروثي ستانغ، الّتي كرّست حياتها لخدمة الّذين لا أرض لهم في الأمازون: وعندما سألها قاتلوها عن سلاحها، رفعت الكتاب المقدّس وقالت: "هذا هو سلاحي الوحيد". وأُفكّر بالأب رغيد غنّي، الكاهن الكلدانيّ من الموصل في العراق، الّذي رفض حمل السّلاح لكي يشهد كيف يتصرّف المسيحيّ الحقيقيّ. وأُفكِّر بالأخ فرنسيس توفي، الأنغليكانيّ وعضو "أخويّة ميلانيزيا"، الّذي بذل حياته لأجل السّلام في جزر سليمان. والأمثلة كثيرة، لأنّ اضطهاد المسيحيّين لم يتوقّف مع سقوط دكتاتوريّات القرن العشرين، بل ازداد في بعض مناطق العالم. هؤلاء الخدّام الشّجعان للإنجيل، شهداء الإيمان، "يشكّلون لوحة فسيفساء عظيمة للإنسانيّة المسيحيّة… لوحة فسيفساء لإنجيل التّطويبات الّذي عاشوه حتّى إراقة الدّم".
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لا يمكننا ولا نريد أن ننسى. نريد أن نتذكّر. ونقوم بذلك ونحن واثقون أنّه كما في القرون الأولى، كذلك في الألفيّة الثّالثة "دم الشّهداء هو بذرة مسيحيّين جدد". نريد أن نحافظ على هذه الذّاكرة مع إخوتنا وأخواتنا من الكنائس والجماعات المسيحيّة الأخرى. ولذلك أرغب في أن أعيد التّأكيد على التزام الكنيسة الكاثوليكيّة بالحفاظ على ذكرى شهود الإيمان من جميع التّقاليد المسيحيّة. وتقوم "لجنة الشّهداء الجدد" التّابعة لدائرة دعاوى القدّيسين بهذا العمل، بالتّعاون مع دائرة تعزيز وحدة المسيحيّين. وكما أقرّينا في السّينودس الأخير، فإنّ مسكونيّة الدّمّ توحّد "المسيحيّين من انتماءات مختلفة الّذين يهبون حياتهم معًا من أجل الإيمان بيسوع المسيح. إنّ شهادة استشهادهم هي أبلغ من أيّ كلمة: لأنّ الوحدة تأتي من صليب الرّبّ". فليقرّب دم هؤلاء الشّهود الكُثر اليوم المبارك الّذي سنشرب فيه جميعًا من كأس الخلاص نفسه.
أيّها الأعزّاء، كتب طفل باكستانيّ يُدعى أبيش مسيح، استُشهد في اعتداء على كنيسة كاثوليكيّة، في دفتره عبارة:"Making the world a better place" – "لنجعل العالم مكانًا أفضل". فليحرّكنا حلم هذا الطّفل لنشهد بشجاعة لإيماننا، ونكون معًا خميرة لإنسانيّة مسالمة وأخويّة."