البابا عن الطّوباويّين الجدد: تركوا للشّعب الرّوماني إرثًا ثمينًا يمكن أن يُلخّص بعبارتين: حرّيّة ورحمة!
"إنّ الرّبّ رأى هذا الرّجل الأعمى منذ ولادته. وبعد أن أعلن أنّ حالته هذه ليست نتيجة للخطية جبل طينًا ومسح به عيني الأعمى، ثمّ طلب منه أن يغتسل في بركة "سلوام"، وبعدها استعاد الرّجل بصره. هذا ثمّ قام الفرّيسيّون باستجواب الرّجل الأعمى ووالدَيه ووضعوا هويّته موضع شكّ، ثمّ نبذوا عمل الله، بحجّة أنّه لا يشفي يوم السّبت! لكنّ الرّبّ يُعطي الأولويّة لمحبّة الآب الذي يريد أن يُخلّص جميع البشر. وكان يتعيّن على الرّجل الأعمى أن يتعايش مع حالته ومع عمى الأشخاص المحيطين به، وهكذا هي المشاعر العدائيّة التي تولد في قلب الإنسان، عندما يضع في قلبه المصالح الخاصّة، والنّظريّات والأيديولوجيّات التي تصيب الكلّ بالعمى. لكن منطق الرّب مختلف، لأنّه يبحث عن الشخص مع وجهه وجراحه وتاريخه. يذهب لملاقاته ويضع في المحور الأمور المهمة حقًّا.
وهذه الأرض في رومانيا اختبرت جيّدًا معنى ألم النّاس، عندما يكون ثقل الأيديولوجيا والأنظمة أقوى من الحياة ويتعارض مع حياة الأشخاص وإيمانهم. وإنّ فكرنا يتّجه نحو الأساقفة السّبعة المنتمين إلى كنيسة الرّوم الكاثوليك، والذين سُررت بإعلانهم طوباويين. وإزاء القمع الوحشيّ للنّظام، أظهر هؤلاء إيمانًا ومحبّة مثاليّين حيال شعبهم. لقد قبلوا بشجاعة وصلابة داخليّة أن يُزجّوا في السّجن ويخضعوا لشتّى أنواع سوء المعاملة، شرط ألا ينكروا انتماءهم لكنيستهم الحبيبة. إنّ هؤلاء الرّعاة، شهداء الإيمان، تركوا للشّعب الروماني إرثًا ثمينًا يمكن أن يُلخّص بعبارتين: حريّة ورحمة!
فيما يتعلّق بالحرّيّة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا الاحتفال يتمُّ في "ميدان الحرّيّة". إنّ هذا المكان الهام يعيد إلى الأذهان وحدة الشّعب التي تحقّقت ضمن تعدّديّة التّعابير الدّينيّة؛ وهذا الأمر يشكل إرثًا روحيًّا يغني ويميّز الثّقافة والهويّة الوطنيّة الرّومانيّة. لقد عانى الطّوباويّون الجدد الأمرّين وضحوا بحياتهم، مواجهين نظامًا إيديولوجيًّا قاسيًا قمعَ الحقوق الأساسيّة للكائن البشريّ. وفي تلك الحقبة الحزينة، إمتُحنت حياة الجماعة الكاثوليكيّة على يد نظام دكتاتوري وملحد. وقد تعرّض العديد من الأساقفة والمؤمنين المنتمين إلى الكنيسة الكاثوليكيّة للاضطّهاد والسّجن.
أمّا البعد الثّاني من الإرث الرّوحيّ للطّوباويّين الجدد ألا وهو الرّحمة. إنّ هؤلاء كانوا مستعدّين للتّضحية بحياتهم، ولم يتفوّهوا بكلمة حقد حيال مضطهديهم، بل عاشوا الوداعة تجاههم. وأُذكّركم بما قاله الأسقف Iuliu Hossu خلال اعتقاله "لقد أرسلنا الله إلى ظلمات الألم هذه كي نهب الغفران ونصلي من أجل ارتداد الجميع".
وهذه العبارات هي رمز وخلاصة الموقف الذي عاشه هؤلاء الطّوباويّون خلال محنتهم وعضدوا الشّعب كي يستمر في التّعبير عن إيمانه بثبات. وأنّ موقف الرّحمة هذا تجاه المضطّهِدين يشكّل رسالة نبويّة لأنه يدعو اليوم الجميع إلى التّغلّب على الحقد بواسطة المحبّة والغفران، وعيش الإيمان المسيحي بانسجام وشجاعة.
كما أُشير إلى بروز أيديولوجيّات جديدة تسعى إلى فرض ذاتها وسلخ النّاس عن تقاليدهم الثّقافيّة والدّينيّة الغنيّة. وإنّها بمثابة استعمار ايديولوجيّ يحتقر قيمة الشّخص والحياة والزّواج والعائلة، ويسيء إلى الشبان والأطفال؛ إذ يحرمهم من الجذور التي ينمون بواسطتها، ويُستعمل الإنسان كأنّه مُجرّد سلعة. وإنّ هذه الأصوات التي تزرع الخوف والإنقسام تسعى إلى إلغاء وطمر أثمن إرث شهدته هذه الأراضي. وأنا أُفكّر على سبيل المثال بقانون Torda للعام 1568 الذي يعاقب كلّ شكل من أشكال الرّاديكالية ويعزّز التّسامح الدّينيّ.
وأخيرًا، أدعوكم جميعًا إلى حمل نور الإنجيل لأناس زمننا ومتابعة النّضال، على غرار الطّوباويّين الجدد، ضدّ الأيديولوجيّات الحديثة النّاشئة. وأتمنّى أن تكونوا شهودًا للحرّيّة والرّحمة، كي يطغى الحوار والأخوة على الإنقسامات، وتُعزّز أخوّة الدّم التي تستمدُّ جذورها من زمن معاناة المسيحيّين، عندما عاشوا التّضامن واكتشفوا أنّهم قريبون من بعضهم، على الرّغم من الإنقسامات التّاريخيّة."