البابا إلى شبكات الشّعوب الأصليّة: انشروا الفرح!
وفي هذه الرّسالة كتب نقلًا عن "فاتيكان نيوز": "يسرّني أن أنضمّ إلى هذا اللّقاء الافتراضيّ الّذي نظّمته رئاسة مجلس أساقفة أميركا اللّاتينيّة بمناسبة السّنة المقدّسة. إنّها حقًّا فرصة ثمينة لتعميق معنى العطيّة الّتي يمنحنا إيّاها الرّبّ من خلال كنيسته. على اليوبيل أن يكون بالنّسبة لنا أوّلًا "زمن لقاء حيّ وشخصيّ مع الرّبّ يسوع، "باب" الخلاص"، أيّ مناسبة للمصالحة، وللذّكرى المُمتنّة، ولرجاء مشترك، أكثر من كونه مجرّد احتفال خارجيّ. وعندما وضع البابا فرنسيس برنامج الفعاليّات اليوبيليّة، أراد أن يبرز الطّابع العالميّ للكنيسة، الّذي يظهر في تنوّع الدّعوات والأعمار وأوضاع الحياة: العائلات، الأطفال، المراهقون، الشّباب، المسنّون، الكهنة والعلمانيّون، الّذين يخدمون في الكنيسة والمجتمع. وهذا الطّابع العالميّ- الّذي لا يوحّد بشكل قسريّ بل يحتضن ويحاور ويغتني بتنوّع الشّعوب- يشملكم أنتم أيضًا، أيّتها الشّعوب الأصليّة، لأنّ تاريخكم وروحانيّتكم ورجاءكم يشكّلون صوتًا لا يمكن الاستغناء عنه داخل الشّركة الكنسيّة. وفي هذا الإطار، يبدو لي من المهمّ أن نفهم أنّ عبور الباب المقدّس ليس مجرّد عمل رمزيّ ندخل به هيكلًا جميلًا، بل هو بالأحرى دخول، بالإيمان، إلى نبع المحبّة الإلهيّة نفسه، أيّ إلى جنب المصلوب المطعون. فبفضل هذا الإيمان نصبح شعبًا من الإخوة، واحدًا في الإله الواحد. ومن هذه الحقيقة بالذّات علينا أن نعيد قراءة تاريخنا وواقعنا، لنواجه المستقبل بالرّجاء الّذي يدعونا إليه اليوبيل رغم التّعب والشّدائد.
يمكن لهذا المنظور أن يساعدنا في تأمّلنا، لأنّ الشّعوب الأصليّة تستمدّ قوّتها من يقينها بأنّ واحدًا فقط هو أصل الكون وغايته، وهو الأوّل في كلّ شيء، وهو مصدر كلّ صلاح، ومنه ينبع كلّ خير، بما في ذلك الخير الموجود في شعوبنا. ومن يقين الإيمان هذا تنبع تسبحة الشّكر خاصتنا فيما نعبر الباب المقدّس لقلب المسيح: "تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح الّذي باركنا في المسيح بكلّ بركة روحيّة في السّماوات، إذ اختارنا فيه قبل إنشاء العالم لنكون أبناءه". هذه هي غاية رجائنا، وهي لا تخصّ بعضًا من النّاس دون سواهم، بل الجميع، حتّى الّذين اعتُبروا في الماضي أعداء: "الفلسطينيّون، الآراميّون، الأحباش"، "مصر وبابل"، القوى العُظمة المُحتلَّة، و"كلّ إنسان ولد فيها" (مزمور ٨٦، ٥). ويقول القدّيس أغسطينوس: "لم يذكر إلّا بعضًا منهم لكي نفهم أنّ المقصود هو الجميع".
وللأسف، فإنّ كوننا بشرًا يعني أنّنا نواجه أيضًا معنى آخر لكلمة "أصليّ"، لأنّ تاريخ البشارة الطّويل الّذي عرفته شعوبنا الأصليّة، كما أكّد مرارًا أساقفة أميركا اللّاتينيّة والكاريبي، كان حافلًا بـ"الأنوار والظّلال". ويطبّق القدّيس أوغسطينوس ذلك على خدّام الإنجيل، فيقول: "إذا كان الإنسان صالحًا، اتّحد بالله وتعاون معه؛ وإذا كان شرّيرًا، فإنّ الله يعمل من خلاله الشّكل المنظور للسّرّ ويمنح النّعمة بنفسه. فلنتمسّك بهذا لكي لا تكون بيننا انقسامات". وهكذا، فإنّ اليوبيل، الزّمن الثّمين للمغفرة، يدعونا لكي "نغفر من القلب لإخوتنا"، ولكي نتصالح مع تاريخنا، ونشكر الله على رحمته الّتي شملتنا.
بهذه الطّريقة، إذ نعترف بأنوار ماضينا وجراحه معًا، نفهم أنّنا لا نستطيع أن نكون شعبًا حقًّا إلّا إذا استسلمنا لقوّة الله وعمله فينا. فهو الّذي غرس في كلّ الثّقافات "بذور الكلمة"، ويجعلها تُزهِر في أشكال جديدة ومدهشة، ويُهذّبها لكي تثمر أكثر. وقد أكّد سلفي القدّيس يوحنّا بولس الثّاني ذلك بقوله: "إنّ قوّة الإنجيل في كلّ مكان هي قوّة تحوّل وتجديد. فعندما ينفذ الإنجيل إلى ثقافة ما، من يمكنه أن يستغرب إذا تبدّلت فيها عناصر كثيرة؟ لن يكون هناك تعليم مسيحيّ إذا كان الإنجيل هو الّذي يجب أن يتبدّل عند اتّصاله بالثّقافات". لذلك، من خلال الحوار واللّقاء، نتعلّم من مختلف طرق النّظر إلى العالم، ونثمّن ما هو خاصّ بكلّ ثقافة وأصيل فيها، ونكتشف معًا الحياة الوافرة الّتي يقدّمها المسيح لجميع الشّعوب. وهذه الحياة الجديدة تُعطى لنا لأنّنا نشترك في هشاشة الطّبيعة البشريّة الموصومة بالخطيئة الأصليّة، ولأنّنا قد نلنا نعمة المسيح الّذي أراق دمه حتّى آخر قطرة لأجل الجميع، لكي نحيا "الحياة بوفرة"، فننال الشّفاء والفداء كلّما فتحنا قلوبنا للنّعمة الّتي مُنحت لنا.
أنتم تجتمعون الآن لكي تتعمّقوا في جميع هذه الأمور كلّها، ولذلك لا أودّ أن أختم من دون أن أذكّر بتعبيرٍ أحبّه سلفي البابا فرنسيس كثيرًا: الـ " parresía"، أيّ الجرأة الإنجيليّة، الخروج من الذّات لإعلان الإنجيل بلا خوف وبحرّيّة القلب، الّذي "يقول الحقيقة كلّها لأنّه صادق". وعلى صعيد الأمم، على الشّعوب الأصليّة أن تُظهر بشجاعة وحرّيّة غناها الإنسانيّ والثّقافيّ والمسيحيّ الخاصّ. والكنيسة تُصغي إلى أصواتهم الفريدة وتتغذّى منها، لأنّ لها مكانًا لا بديل له في ذلك الجوق العظيم الّذي يرنّم فيه الجميع: "أيّها الرّبّ الإله الأزليّ، بفرح ننشُد لك، ونرفع إليك تسبيحنا". وفي هذا التّسبيح المشترك نتذكّر نداء الإنجيل لتجنّب تجربة أن نضع ما ليس هو الله في المركز- سواء كان السّلطة، أو السّيطرة، أو التّكنولوجيا، أو أيّ واقع مخلوق- لكي يبقى قلبنا متوجّهًا دومًا نحو الرّبّ الواحد، مصدر الحياة والرّجاء. لذلك، فإنّ كلّ تمييز نقوم به- تاريخيّ، أو اجتماعيّ، أو نفسيّ، أو منهجيّ- يجد معناه الأسمى في الوصيّة الكبرى: إعلان يسوع المسيح الّذي مات لمغفرة خطايانا، وقام لكي ننال الخلاص باسمه، منذ هذه الأرض، لكي نعبده بعدها بكلّ كياننا في مجد السّماء.
وإذ أوكل أعمالكم إلى الطّوباويّة مريم العذراء سيّدة غوادالوبي، نجمة البشارة، الّتي أظهرت لنا بشكل عجيب كيف أنّ يسوع المسيح "جعل من الشّعبين واحدًا، وهدم الحائط الفاصل بينهما، أيّ العداوة"، أدعوكم إلى تجديد الالتزام بوصيّة الرّبّ: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والرّوح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا كلّ ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدّهر"، وانشروا الفرح الّذي ينبع من اللّقاء بقلبه الإلهيّ."