الفاتيكان
11 شباط 2021, 12:15

الأكاديميّة الحبريّة للحياة: من خلال إقصاء المسنّين تُبتر الجذور الّتي تسمح للمجتمع بأن ينمو

تيلي لوميار/ نورسات
أضاءت وثيقة الأكاديميّة الحبريّة للحياة "الشّيخوخة مستقبلنا- وضع المسنّين بعد الوباء"، الّتي صدرت ظهر الثّلاثاء، على غنى المسنّين، حاثّة على ضرورة إعادة التّفكير العميق في نماذج رعاية المسنّين أكثر من أيّ وقت مضى.

وجاء في تفاصيل نصّ الوثيقة بحسب "فاتيكان نيوز" ما يلي: "خلال الموجة الأولى من الوباء، حدث جزء كبير من الوفيات النّاجمة عن فيروس الكورونا في المؤسّسات الخاصّة بالمسنّين، وهي الأماكن الّتي كان من المفترض أن تحمي "الجزء الأكثر هشاشة في المجتمع" وحيث ضرب الموت بشكل أكبر نسبة إلى المنازل والبيئة الأسريّة. خلال السّنوات الّتي كان فيها رئيس أساقفة بوينس آيرس، شدّد البابا فرنسيس على أنّ "إقصاء المسنّين من حياة الأسرة والمجتمع يمثّل تعبيرًا عن عمليّة منحرفة خالية من المجانيّة والسّخاء، وغنى المشاعر الّذي يجعل الحياة أكثر من مجرد أخذ وعطاء... إنّ القضاء على المسنّين هو لعنة غالبًا ما يلحقها مجتمعنا بنفسه". لذلك من المناسب أن ننطلق في تأمُّلٍ متأنٍّ وبعيد النّظر وصادق حول الطّريقة الّتي ينبغي على المجتمع المعاصر أن يقترب من خلالها من السّكّان المسنّين، لاسيّما حيثما يكونون الأضعف. نحن بحاجة إلى رؤية جديدة ونموذج جديد يسمح للمجتمع برعاية المسنّين.

كما أشار البابا فرنسيس، "تتوافق الشّيخوخة اليوم مع فصول مختلفة من الحياة: بالنّسبة للكثيرين هي السّنّ الّذي يتوقّف فيه الالتزام الإنتاجيّ، وتنخفض القوى وتظهر علامات المرض، والحاجة إلى المساعدة والعزلة الاجتماعيّة؛ لكنّها بالنّسبة لكثيرين أيضًا بداية فترة طويلة من الرّفاهيّة النّفسيّة والجسديّة والتّحرّر من التزامات العمل. في كلتا الحالتين، كيف يجب أن تُعاش هذه السّنوات؟ ما المعنى الّذي نعطيه لهذه المرحلة من الحياة، والّتي يمكنها أن تكون طويلة بالنّسبة للكثيرين؟" إنَّ الشّيخوخة- يلاحظ البابا فرنسيس- ليست مرضًا، إنّما هي امتياز! يمكن للوحدة أن تكون مرضًا، ولكن مع المحبّة والقرب والتّعزية الرّوحيّة يمكننا أن نداويها". إنّ التّقدّم في السّنّ، في الواقع، هو عطيّة من الله ومورد هائل، وإنجاز يجب أن نحافظ عليه بعناية، حتّى عندما يشتدُّ المرض وتظهر الحاجة إلى رعاية متكاملة وعالية الجودة. وبالتّالي لا يمكن أن ننكر أنّ الوباء قد عزّز فينا جميعًا الإدراك بأنّ "غنى السّنين" هو كنز علينا أن نقدِّره ونحميه.

على المستوى الثّقافيّ والضّمير المدنيّ والمسيحيّ، فإنّ إعادة التّفكير العميق في نماذج رعاية المسنّين هو أمر ضروريّ أكثر من أيّ وقت مضى. لذلك، يجب أن يكون الشّخص البشريّ محور هذا النّموذج الجديد لمساعدة ورعاية المسنّين الأكثر هشاشة؛ مدركين على الدّوام أنّ كلّ شخص مسنّ هو مختلف عن الآخر، ولا يمكننا أن نتغاضى عن فرادة قصّة كلِّ فرد: سيرته الذّاتيّة، بيئته المعيشيّة، علاقاته الحاليّة والماضية. وبالتّالي لكي نحدّد منظورات جديدة للإسكان والمساعدة، من الضّروريّ أن ننطلق من دراسة متأنّية للشّخص وتاريخه واحتياجاته. لذلك وفي ضوء هذه المقدّمات، يجب على دور رعاية المسنّين أن تطوِّر ذاتها باستمرار على الصّعيد الصّحّيّ والاجتماعيّ، أيّ أن تقدّم بعض خدماتها مباشرة في منازل المسنّين: الاستشفاء في المنزل، ورعاية الفرد من خلال استجابات مساعدة تمّ تعديلها وفقًا للاحتياجات الشّخصيّة، لكي تبقى الرّعاية الاجتماعيّة والصّحّيّة المتكاملة والرّعاية المنزليّة المحور لنموذج جديد وحديث. كلّ هذا يوضح بشكل أكبر الحاجة إلى دعم العائلات الّتي، لا يمكنها تحمّل المسؤوليّة المرهقة في بعض الأحيان لرعاية مرض متطلّب باهظ التّكلفة من حيث الطّاقة والمال. وبالتّالي علينا أن نخلق مجدّدًا شبكة أوسع من التّضامن، لا تقوم بالضّرورة وحصريًّا على روابط الدّمّ، وإنّما على الانتماء والصّداقات والمشاعر المشتركة والسّخاء المتبادل في الاستجابة لاحتياجات الآخرين.

في هذا السّياق، تُدعى الأبرشيّات والرّعايا والجماعات الكنسيّة أيضًا للتّفكير باهتمام أكبر في عالم المسنّين. يشكّل حضور المسنّين موردًا كبيرًا؛ يكفي أن نفكّر في الدّور الحاسم الّذي لعبوه في الحفاظ على الإيمان ونقله إلى الشّباب في البلدان الّتي كانت تحت الأنظمة الملحدة والاستبداديّة. وما يفعله العديد من الأجداد لكي ينقلوا الإيمان إلى أحفادهم. "في المجتمعات المعولمة في العديد من البلدان- يكتب البابا فرنسيس- لا تمتلك الأجيال الحاليّة من الآباء، في الغالب، تلك التّنشئة المسيحيّة وذلك الإيمان الحيّ، الّذي يمكن للأجداد أن ينقلوه إلى أحفادهم. إنّهم الحلقة الّتي لا غنى عنها لتربية الأطفال والشّباب على الإيمان. وبالتّالي علينا أن نتعوّد على إشراكهم في آفاقنا الرّعويّة وأخذهم بعين الاعتبار كأحد المكوّنات الحيويّة لمجتمعاتنا. فهم ليسوا مجرّد أشخاص نحن مدعوّون لمساعدتهم وحمايتهم من أجل الحفاظ على حياتهم، ولكن يمكنهم أيضًا أن يكونوا فاعلين في راعويّة بشارة، وشهود مميزيّن لمحبّة الله الصّادقة". بهذا المعنى يمكن للكنيسة أن تكون مكانًا يُدعى فيه الأجيال للمشاركة في مشروع محبّة الله، في علاقة متبادلة لتبادل مواهب الرّوح القدس. وهذه المشاركة بين الأجيال تجبرنا على تغيير نظرتنا إلى المسنّين، لكي نتعلّم أن ننظر إلى المستقبل معهم، لأنّ الرّبّ يريد أيضًا أن يكتب صفحات جديدة معهم، صفحات قداسة، وخدمة وصلاة.

في الواقع، ومن خلال اللّقاء يمكن للشّباب والمسنّين، أن يحملوا إلى النّسيج الاجتماعيّ تلك الحيويّة الجديدة للأنسنة الّتي من شأنها أن تجعل المجتمع أكثر تضامنًا. ثمينة هي أيضًا الشّهادة الّتي يمكن للمسنّين أن يقدّموها من خلال ضعفهم وهشاشتهم، ويمكننا قراءتها على أنّها "تعليم" حياة. وهذا ما يعبّر عنه لقاء بطرس بيسوع القائن من الموت على ضفاف بحيرة طبريّا، إذ قال له: "لَمَّا كُنتَ شابًّا، كُنتَ تَتَزَنَّرُ بِيَديكَ، وتَسيرُ إِلى حَيثُ تشاء، فإِذا شِخْتَ بَسَطتَ يَدَيكَ، وشَدَّ غَيرُكَ لكَ الزُّنَّار، ومَضى بِكَ إِلى حَيثُ لا تَشاء". يبدو أنّ التّعليم الكامل حول الشّخص الّذي يضعف في الشّيخوخة يتلخّص في هذه الكلمات: "بسط اليدين" للحصول على المساعدة. يذكّرنا المسنّون بالضّعف الجذريّ لكلّ إنسان، حتّى عندما يكونون بصحّة جيّدة، فإنّهم يذكّروننا بالحاجة إلى المحبّة والدعم. لأنّه في سنّ الشّيخوخة، بعد هزيمة كلّ اكتفاء ذاتيّ، يصبح المرء متسوّلاً للمساعدة. يكتب القدّيس بولس الرّسول: "لأَنِّي عِندَما أَكونُ ضَعيفًا أَكونُ قَوِيًّا". في الضّعف يمدّ الله نفسه يده للإنسان، وبالتّالي ينبغي أيضًا فهم الشّيخوخة في هذا الأفق الرّوحيّ: إنّها العمر الملائم للاستسلام لله.

هناك رواية إنجيليّة بشكل خاصّ تسلّط الضّوء على قيمة الشّيخوخة وإمكاناتها المدهشة. إنّه حدث تقديم الرّبّ إلى الهيكل، وهو حدث يسمّى في التّقليد المسيحيّ الشّرقيّ "عيد اللّقاء". في تلك المناسبة، في الواقع، التقى مسنّان، سمعان وحنّة، بالطّفل يسوع: مسنّان ضعيفان يكشفانه للعالم على أنّه نور الأمم ويخبران عنه لجميع الّذين كانو ينتظرون تحقيق الوعود الإلهيّة. وهكذا ينبع الرّجاء من اللّقاء بين شخصين هشّين، طفل وشيخ، ليذكّرانا في زماننا الّذي يعظّم ثقافة الأداء والقوّة، أنّ الرّبّ يحبّ أن يكشف عظمته في الصّغر وقوّته في الحنان. هذا الأمر يحصل أيضًا في اللّقاء المفتوح والمضياف بين الشّباب والمسنّين، والّذي يسمح بتحقيق الوعد القديم، كما يكتب البابا فرنسيس: "هذا الحدث يحقّق نبوءة يوئيل: "فيتنبّأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلامًا ويرى شبّانكم رؤى". في ذلك اللّقاء يرى الشّباب رسالتهم ويحقّق المسنّون أحلامهم". المستقبل- يبدو أنّ هذه النّبوءة تخبرنا- يفتح إمكانيّات مذهلة فقط إذا قمنا بتعزيزه معًا. بفضل المسنّين فقط يمكن للشّباب أن يكتشفوا جذورهم مجدّدًا، وبفضل الشّباب فقط يستعيد المسنّون القدرة على الحلم. ولهذا فإنّ حرمان المسنّين من "دورهم النّبويّ"، وإبعادهم لأسباب إنتاجيّة بحتة، يتسبّب في إفقار كبير، وخسارة لا تُغتفر للحكمة والإنسانيّة؛ لأنّه من خلال إقصاء المسنّين، تُبتر الجذور الّتي تسمح للمجتمع بأن ينمو نحو العلى وتمنعه من أن ينحسر على احتياجات الحاضر المؤقّتة."