الأب طلال تلعب: بالصّعود عاد إلينا المكان الّذي خُلقنا لأجله
"نعود ونلتقي اليوم في هذا المقام المقدّس، سيّدة زحلة والبقاع، محتفلين معًا بعيد الصّعود الإلهيّ، صعود السّيّد المسيح إلى السّماء بعد أربعين يومًا من قيامته، بعد أن أتمّ عمل الفداء والتّدبير الإلهيّ، كما يُحدِّثنا الإنجيليّ لوقا في كتاب أعمال الرّسل: "إنّ يسوع هذا الّذي ارتفع عنكم إلى السّماء سيأتي هكذا كما عايَنتموه منطلقًا إلى السّماء" (أعمال 11:1).
يقول القدّيس أبيفانوس: "هذا العيد هو مجد الأعياد وشرفها، لأنّ الرّبّ صعد إلى السّماء بناسوته ولاهوته المتَّحد به ليكون لنا من جديد إمكانيّة أن نوجَد في السّماء. فبالصّعود عاد إلينا المكان الّذي خُلِقنا لأجله ووُجِدنا لأجله يوم أراد الله الخالق أن نحيا معه في شركةٍ في السّماء. ولأنّنا أضعنا الهدف مع آدم الأوّل أتى يسوع المسيح آدم الجديد ليُعيدنا إلى حيث يجب أن نكون. إنّ محاولات الله الآب لم تتوقَّف أبدًا عن إعادتنا إلى البيت الّذي خسرناه، نحن مَن خُلِقنا على صورته ومثاله، سنظلّ بحالةِ بحثٍ مستمرٍّ حتّى نبلغ إلى معرفة الله. لقد تجسَّد يسوع المسيح وصُلِبَ وقُبِرَ وقام، لكي يُعطيَنا من جديدٍ فرصة الاتّحاد به شرط أن يكون لدينا الإرادة والنّيّة في ذلك.
إخوتي وأخواتي الأحبّاء، إنّ صعود يسوع هو انتصارٌ واضحٌ على الموت، وبتعبيرٍ آخر هو دلالةٌ واضحةٌ على وجود الله معنا، مع أبنائه وكنيسته. وبالصّعود الإلهيّ نعيش حالة المعموديّة الجديدة الّتي من خلالها لبسنا المسيح، واعتمدنا به وسُمِّينا على اسمه، وما السّماء الّتي نريد أن نُرفَع إليها إلّا هذا التّسامي عن كلّ ما يُعيق نموَّنا، فيكون الصّعود علامةَ تَخَلٍّ لأجل فرحٍ أعظم وأكبر. ليكون كالذّبيحة الّتي تُرفع لله الآب: يسوع نفسُه قدَّم ذاته ذبيحة، هو الكاهن والمقدِّم للذّبيحة وهو واحدٌ مع الآب.
إنّ عيد الصّعود هو علامةٌ فارقةٌ في حياتنا نحن الّذين نؤمن بيسوع المسيح، لأنّه مرحلةٌ مِفصليّةٌ ما بين صعود الرّبّ ومجيئه الثّاني. وهذا المجيء غير مرتبط بزمانٍ ما ولا بوقتٍ محدَّد، ذلك أنّ الآب وحده مَن يقرِّر أين ومتى وكيف. إنّ الحياة المسيحيّة ما هي إلّا حياةُ حضورٍ دائمٍ وتجدُّدٍ مستمرّ ونشاط في الشّهادة ليسوع المسيح. فيسوع حاضر معنا دومًا، غمامة اليوم الّتي حُجِبَت بها أنظار التّلاميذ تُذكِّرنا بغمامة التّجلّي وبخيمة الله المقدّسة، الّتي كانت علامةً لحضور الله (خروج 34:40-35) وهنا يجب أن نفهم جيّدًا أنّ صعود يسوع إلى السّماء ليس رحلة إلى مكانٍ بعيد، بل هو دخولٌ في سرّ الله، لأنّ يسوع حاضرٌ بيننا بطريقةٍ فعّالة. لقد صار يسوع بمقدار قربه من الآب (على يمينه) قريبًا أيضًا من شعبه وكنيسته، ولكن يجب علينا نحن كما قلتُ سابقًا أن نسمح له بأن يصعد إلى مركب حياتنا، ونكون متأكِّدين بأنّه مهما عَلَتِ الأمواج واشتدَّت الرّياح هو معنا وسيصل بنا إلى شاطئ الأمان.
إنّ مَن يريد أن يَلمُس يسوع اليوم، فلن يلمسه بالتّأكيد جسديًّا، بل من خلال القربان المقدّس، من خلال الارتقاء الإيمانيّ والرّوحيّ إليه "لنرفع قلوبنا إلى العلاء"، وما علينا سوى أن نبقى بحالةِ سهرٍ دائمٍ غير مستسلمين للّحظةِ الرّاهنة، سهرٍ يعني انفتاحًا على الخير والحقّ والجمال، لنستطيع أن نصرخ "ماراناتا"، أيّ "تعال أيّها الرّبّ يسوع"، ونسمع صوته نعم إنّي آتٍ عن قريب.
إنّ ما يلفُت انتباهنا أيضًا قول النّصّ: "عادوا فرحين"؛ إنّهم فَرِحون مع أنّ كلّ لقاءٍ بشريّ ينتهي بالوداع، ينتهي بالحزن؛ فَرِحَ التّلاميذ لأنّهم عَرَفوا وأيقنوا أنّ رسالتهم قد بدأت وأنّ كلّ ما قاله يسوع لهم سيتحقَّق؛ فَرِحوا لأنّهم اختبروا أنّ يسوع حاضرٌ دومًا بينهم ومعهم، ومنه يستمدّون كلّ فرحٍ وغبطة.
في نهاية النّصّ الإنجيليّ يقول: "أَخَذَهم إلى بيت عنيا وباركهم وبينما هو يباركهم انفصل عنهم إلى السّماء". إنّ بركة يسوع مستمرّةٌ معنا؛ إنّها خيمةٌ تَحمينا؛ في بركة يسوع علامةٌ دائمةٌ لحضوره وتعبيرٌ عن العلاقة المستمرّة بينه وبين كنيسته، وعلامةٌ على أنّه يريد دومًا أن يرفعنا إلى ما قد أُعِدَّ لنا في السّماء، وما سجود التّلاميذ له وسجودنا معهم بهذا الإيمان سوى تعبيرٍ عميقٍ عن ثقتنا به أكثر وأكثر؛ ثقتِنا بأنّ مَن يُمسِك يسوعُ يدَه سيَصل به حتمًا إلى السّماء.
لتَبقَ إخوتي وأخواتي الأحبّاء أيدينا وعيوننا مرفوعةً وشاخصةً إليه وهذا هو سرّ الإيمان. إنّ الله خلقنا على صورته ومثاله، منحنا عقلًا نُميِّز بواسطته الخير من الشّرّ، نَفَخَ فينا روحًا تُخوِّلنا إدراك أعلى مراتب الجمال والكمال، وَهَبَنا الحرّيّة دون قيدٍ أو شرط، حرّيّةً إذا أسأنا استعمالها سقطنا من السّماء. إذا اخترنا تنكيس أعيننا ينحصر عالمنا ضمن حدود الرّؤية ونحيا ملتصقين قلبًا وقالبًا بأرضٍ أثمن ما تُقدِّمه لنا هو التّراب، وهذا ما نسمّيه السّقوط. المسيحيّة تؤكِّد أنّ الإله صار إنسانًا إنّما ليُخلِّص الإنسان من قيد الخطيئة فيطلقه حرًّا من جديد عَلَّه يرفع النّظر إلى علياء الله فيشتهيه فيُجهِد السّعيَ لبلوغه وهذا ما نسمّيه الصّعود والرّبّ مَهَّدَ لنا الطّريق بصعوده بالجسد بعد القيامة. عسى المسيح يكون محور اهتمامنا فتتحوَّل حياتنا صعودًا يَعِدُ بحياةٍ في مجد الله آمين".