لبنان
28 كانون الثاني 2021, 12:50

الأب العامّ مارون مبارك في وداع الأب زيدان: هو منارة مشعّة وعلامة فارقة

تيلي لوميار/ نورسات
ودّعت اليوم جمعيّة المرسلين اللّبنانيّين الموارنة رئيسها العامّ الأسبق الأب ساسين زيدان، خلال ذبيحة إلهيّة أقيمت لراحة نفسه في كنيسة مار يوحنّا- دير الكريم- غوسطا، وكانت للمناسبة كلمة ألقاها الرّئيس العامّ الأب مارون مبارك، تحت عنوان "جعلتُ الرّبّ أمامي في كلّ حين" (مز16/ 8)، قال فيها:

"اليوم، إسم جديد يكتب في السّماء لينضمّ إلى طغمة "أسماء في السّماء"، وهو من جعل الله نصب عينيه كلّ حين يصل اليوم أمام الله يسلّم الوديعة بكلّ حكمة وأمانة.

اليوم، وفي ملء أسبوع تذكار الكهنة الّذين نصلّي لأجلهم وندعو الرّبّ يسوع أن "يرتّبهم مع أبناء النّور في بيعة الأبكار" هم الّذين "خدموا مذابحك ووزّعوا أسرارك وانتقلوا من هذه الحياة الزّمنيّة»؛ ينضمّ إليهم كاهنٌ لم يتوانَ يومًا عن الخدمة والعطاء، وعن القدوة والسّخاء، فجعل الله دومًا نصب عينيه يطيعه بعمل يديه.

اليوم، وفي عيد مار أفرام ملفان الكنيسة، الّذي تميّزت حياته بالتّواضع ومحبّة الفقراء ونَظْمِ كلمة الله شعرًا معبّرًا حتّى استحقّ لقب كنّارة الرّوح، ينضمّ إليه كاهن لينظُمَ معه على قيثارته المتعدّدة الأوتار من مواهب الرّوح وفضائله ليكمل في السّماء ما بدأه على الأرض من عمل وتعليم ووعظ وخدمة، تمجّد اسم الرّبّ إلى الأبد.

إنّه قدس الأب ساسين زيدان الّذي نودّع روحه الطّاهرة لنودعها بين يدي الآب السّماويّ ورحمته. وما قراءات أحد تذكار الكهنة سوى دليل على صورة الكاهن الحقيقيّة الّتي جسّدها أبونا ساسين كما أرادها الله، وجهًا صادقًا ومحبًّا وخدومًا.

لقد زيّن يسوع الخادم الوكيل بفضيلتين رئيستين: الحكمة والأمانة. تدلّ الحكمة على أولويّة الله في حياة الكاهن. وأبونا ساسين عاش هذه الحكمة لأنّه جعل الله أمامه في كلّ حين فكان الله خياره الأوّل حتّى منه ينطلق بكلّ خياراته الباقية، وكان الله منبعه الأوّل حتّى منه يستلهم المعرفة والشّجاعة لقراراته وأعماله؛ وكان الله مرجعه الأوّل يعود إليه عند كلّ محنة وتحدٍّ؛ وبهذا اكتملت حكمته طوال مسيرته.

وتدلّ الأمانة على الجهوزيّة للخدمة في سبيل خلاص النّفوس والعطاء في كلّ وقت. وأبونا ساسين لم يتوقّف عن العمل في خدمة الكلمة وخدمة النّفوس وخدمة الجمعيّة، فكانت عينه على الله ويده للنّاس، ولهذا استحقّ كلمة يسوع "الوكيل الحكيم الأمين".

أمّا مار بولس فقد أوصى تلميذه طيموتاوس أن يحسن استخدام مفاتيح كنوز الخدمة، فنبّهه على نبع الكلمة لينهل منها معنى الحياة، وعلى سيرة التّقوى الّتي فيها يعطي معنى للحياة، وعلى واجب القدوة الّتي فيها يدلّ على صدق الحياة وعلى خدمة التّعليم الّتي فيها يُنير دروب الحياة وعلى فضيلة الأمانة الّتي فيها يقود الحياة إلى خواتمها الصّحيحة.

وأبونا ساسين له مع كلّ مفاتيح كنوز الخدمة هذه جولات وصولات لا تحصى:

مع الكلمة له خبرة طويلة في الوعظ والإرشاد كتب فيها صفحات مجيدة وطويلة من وعظ أصحاب الغبطة والسّادة المطارين، ووعظ الكهنة والرّهبان والرّاهبات. وإسمحوا لي هنا أن أعبّر ما للأب ساسين من مكانة عند أخواتنا راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات اللّواتي يعتبرنه الأب الحنون من بعد المؤسّس المكرّم البطريرك الياس الحويّك، والطّيّب الذّكر المطران يوسف مرعي. فقد طبع مسيرة الكثيرات من الأخوات بحضور الأب المرشد، والكاهن المعلّم، والأخ المصغي، والصّديق الوفي. كما وما له من مكانة عند أخواتنا الرّاهبات الأنطونيّات اللّواتي يعتبرنه بمثابة "الخال" نسبة إلى أخته المرحومة الأمّ أفدوكيا، ولهنّ جزيل الشّكر على خدمتهنّ ومرافقتهنّ له في أيّامه الأخيرة.

مع التّقوى له خطى ثابتة فأحبّ الصّلاة والسّجود للقربان والاتّكال على الله وعنايته في حياته بقلب الجمعيّة؛ كانت تقواه سرّ نجاحه في القيادة وفي الرّئاسة وفي التّعليم، في العمل والخدمة؛ لم يوفّر مناسبة روحيّة إلّا وسخّر نفسه في عيشها ليغتني بها حتّى يغني الكثيرين. والأكثر وخصوصًا هو تأمّله بالكلمة الّتي كانت تنسكب في سيرته اليوميّة. فالتّأمّل بالنّسبة إليه هو نبراس الحياة الرّوحيّة، ولذا طوال سنوات رئاسته والمراكز الّتي شغلها في الجمعيّة كانت الكلمة الإلهيّة نور طريقه وهداية عمله، بها أحبّ الجمعيّة وعلّمنا جميعًا أن نحبّ أمّنا الجمعيّة.

مع القدوة له ما يكفي ليكون مثالاً في العطاء والصّدق والأمانة. وهذا ما أكسبه قدرة على التّدبير والإدارة والإنماء وكسب احترام إخوته المرسلين وكلّ من عرفه والتقى به. كان مثله ولا يزال منارة مشعّة لكلّ من عرفه والتقى به.

مع التّعليم له صفحات عظام وبالأخصّ في معهد الرّسل- جونيه الّذي ترأّسه وعلّم فيه، ومَن مِنْ تلامذته وليس له حكاية وخبرة طبعت حياته فكانت كلمته هداية لطُرُق الحياة، وتوجيهاته تشجيعًا وحضوره سندًا وتقواه نجمة ميلاديّة لكلّ باحث عن السّلام.

ومع الأمانة وضع أُسُس علاقاته مع المقرّبين إليه من إخوته في الجمعيّة والّذين تعلّموا من مثله محبّة الجمعيّة وخدمتها والتّسليم لكلّ ما يفيد أهدافها الرّوحيّة والرّسوليّة ويحمي خيورها الأرضيّة والسّماويّة. وبالأخصّ طبعت أمانته أهل بيته الّذين أحبّهم وأحبّوه؛ فأثّرت أمانته وصفاته كلّها في قلب ابن أخيه، سيادة المطران الياس عبد الله وجذبته إلى الحياة الرّسوليّة في جمعيّة المرسلين حتّى منها ينطلق إلى قيادة أبرشيّة سيّدة لبنان لوس أنجلوس وخدمتها. فكلّ أبناء عائلته يلتفّون حوله لينهلوا من كلامه وخبراته ما يزيدهم معرفة وإيمانًا ورجاء. إنّه ذخيرة العيلة في البيت وبين الأقارب حيث رباط الدّمّ وهو علامة فارقة في الجمعيّة حيث الرّباط الرّوحيّ.

أجمل ما نعبّر به في وداعه هو ما حاضر به لإخوتنا في الإكليريكيّة حول معنى الوقت، قال: "الزّمن عابر والزّمن وسيلة عبور، لا تقوم قيمة الوقت بطوله أو بقصره، إنّما بما نملأه فيه". اليوم يطوي أبونا ساسين صفحته الأخيرة من الزّمن العابر الّذي ملأه بكلّ ما اغتنى به، ويفتح له الرّبّ صفحة الزّمن الّذي لا يزول حتّى يعبر إلى حيث يليق له أن يعيش في صحبة الأبرار والصّدّيقين ومريم العذراء والقدّيسين.

هذه هو عزاؤنا وهذا هو رجاؤنا."