لبنان
29 أيلول 2017, 08:37

الأب البروفسور يوسف مونّس يضيء على تحدّيات الإعلام المسيحيّ في الشّرق في المؤتمر الإعلاميّ المسيحيّ الثّاني

في إطار الجلسة الثّانية للمؤتمر الإعلاميّ الثّاني "الإعلام المسيحيّ... نحو الاتّحاد"، ألقى البروفسور الأب يوسف مونّس كلمة طرح فيها "تحدّيات الإعلام المسيحيّ في الشّرق". وقد جاء في كلمته:

 

تغيير الخطاب أم تغيير العقليّة؟

أعتقد أنّ التّحدّي الكبير هو ليس فقط في تغيير الخطاب الدّينيّ، لكن هو تغيير العقل في قعره الدّينيّ وولادته المهدويّة لأنّ ينبوعيّة الفكر اللّاهوتيّ هي في جذور وأسس الكينونة الأنتربولوجيّة.

وهناك ترابط كبير بين الثّيولوجيا والانتربولوجيا والقيم والأخلاق والأنماط والسّلوك والمقدّس والمدنّس.

 

الخلط بين الرّأي الشّخصيّ والتّعليم:

والتّحدّي الثّاني الكبير هو في الخلط والمزج بين الرّأي الشّخصيّ والعقيدة أو التّعليم الرّسميّ. يُضاف إلى كلّ هذا فهم ومعرفة ما هو الثّالث وما هو المتحوّل.

والإشكاليّة الكبرى أو المعضلة الّتي تواجهنا هي أنّ منطقة الشّرق الأوسط والعالم بأسره يمرّان بإعصار من التّحوّلات الخطيرة، أو تسونامي مخيف من المتغيّرات يضرب حتّى المرتكزات الأساسيّة لكثير من المعتقدات والسّلوك والقيم والأفكار عندنا.

 

صراع أجيال أو ثورة أجيال؟

العلاقات العائليّة تلفّها الحيرة ويضربها القلق والشّكّ.

والسّؤال العميق هو: هل نحن أمام تصارع أو نزاع أجيال أو أزمة أجيال؟ المسؤوليّات كبيرة ومخيفة، فهل نستقيل أو نواجه عارفين ومعلنين ومتمسّكين بالثّوابت والأسس الّتي لا تمسّ، مع قبول تغيير التّعبير عنها والتّبدّل بطرق عيشها.

 

بين المقدّس والمدنّس

ما هي القيم العريقة والأعراف والأنماط غير المكتوبة للمقدّس والمقدّسات مع قبول مجاراة الحداثة والعصرنة؟ وكيف نحمي مجتمعنا وذواتنا وعائلاتنا من التّفكّك والخلط بين الأساسيّ والهامشيّ، وبين الرّئيسيّ والثّانويّ، وبين المقدّس والمدنّس، وبين الثّابت والمتغيّر، وبين وجهة النّظر والرّأي والعقيدة؟

 

إنقلاب المفاهيم

في اعتقادي أنّ الكثير من مقاييس القيم انقلبت اليوم، فأصبحت عمليّة المساكنة تقوم بدل العائلة، والمثليّة الجنسيّة بدل الحبّ بين رجل وامرأة، وإعطاء الحياة لطفل يكمل عمليّة ما لأجله خلق الله الإنسان، وأصبحت المرأة لهاعورة وليس فقط شعرها. كان كرامة المرأة منّة من الرّجل وليس نعمة من الّذي خلقها. وصمت الكثيرون خوفًا وتجنّبًا لتنقد العقل الدّين المهلوس والنّصّ الديّنيّ الغلط المرفوس ما مرتبة القدس وما هو عارض ومتحوّل رفع إلى مرتبة القداسة.

 

ثقافة اللّاثقافة

حتّى أصبح خطاب انتهاك كرامة الأموات والمعوّقين والأحياء حقّ وواجب جهاديّ مقدّس لنكاح قيل عنه مقدّس، وهو الدّنس والعهر في جذوره.

إنّها ثقافة اللّاثقافة وأصبحنا نتأقلم معها بتأقلم مرضيّ يخلق تداعيات وانهيارات وزلازل أخلاقيّة وأنتربولوجيّة كارثيّة للحقّ وللحقيقة وللحبّ والمحبّة والخير والكرامة والمجانيّة والكرم والنّبل والشّرف. إنّها ثقافة الموت على كلّ المستويات.

 

التّعليم المسيحيّ مرجعيّتنا

فعلينا واجب تقديم الصّورة والأيقونة الحقّة عن يسوع الّذي هو الاسم المقدّس وليس بكلمة الرّبّ فقط الّذي هو حاوية لجميع الآلهة.

وإنّني أتساءل أيّة موسيقى وأيّة كلمات ولباس وحركات تليق حقًّا بعالمنا المعاصر وخاصّة بشبابنا الثّائر الرّافض؟ ما هي حقًّا الأخلاقيّات والتّحدّيات الّتي تواجهنا من قضايا المرضى والمعوّقين والنّازحين والمهجّرين والموت الرّحيم والإجهاض والحبل خارج الرّحم والإعدام والعنف الأسريّ ونقل الأعضاء ووهبها والاغتصاب؟ إنّ مرجعيّتنا فقط كتاب التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة.

 

نحو أنتربولوجيا جديدة

أعتقد أنّ التّحدّيات الإعلاميّة هي كخبز الحياة اليوميّ في السّلوكيّات والأخلاقيّات والمناقبيّات في صناعة للغة تخاطب جديدة في موضوع الدّين والثّقافة والعائلة والإنسان والنّظام الأخلاقيّ وسلّم القيم.

إنّها أنتربولوجيا جديدة يعيشها أولادنا، وهنا يقع سوء التّفاهم الكبير بيننا وبينهم. فهل نفضّل الشّعبويّة على النّوعيّة والرّبح والمصالح على المستوى الإعلاميّ والتّفاهة واللّاثقافة واللّاجمال والقبح وحاجات ونماذج استهلاكيّة جديدة تشوّه الحقيقة الّتي هي نداء ينبع من شخص المسيح الطّريق والحقّ والحياة والجمال والكلمة؟ الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا، وبالكلمة يعلن الله لنا ذاته ويصمت، فأيّة كلمة نكتب ونعلن ونصوّر ونذيع لنكمل كلمة الله؟ هل كلمتنا هي عنّا نحن أم عن الله الّذي هو المحتوى الحقيقيّ لرسالتنا؟ وهذه الكلمة هي يسوع المسيح.

 

المسيح هو الرّسالة

المسيح هو المحتوى والمصدر. عندما يكون الله الكلّ في الكلّ وتصبح الثّيولوجيا أنتربولوجيا متجسّدة في المحبّة والخدمة والحقيقة والسّلام باحترام أصالة كرامة الشّخص البشريّ ومصيره.

لكن يمكن لوسائل الإعلام أن تحلّ محلّ الاتّصال الشّخصيّ ولا تعطي جوابًا على اهتمامات وتساؤلات النّاس وقلق الإنسان، "علينا استحداث أنتربولوجيا وعلم لاهوت حتّى في الاتّصال الإعلاميّ، أقلّه كي يصير اللّاهوت أكثر اتّصالاً وفاعليّة في إعلان القيم الإنجيليّة وتطبيقها على شؤون الحالة البشريّة المعاصرة" (عهد جديد ص. 29)

 

ثقافة الحياة أم ثقافة الموت

إنّ همّ الأيّام الحاضرة هو بناء ثقافة الاحترام والحوار والعدالة تجاه ثقافة الموت والإرهاب والعداوة. حضارة قبول الآخر واحترامه وحبّه وليس حضارة الموت والعقل والذّبح والوحشيّة وإعدام الآخر ورفضه وكرهه وانتهاك حقوقه وكرامته، وخاصّة كرامة المرأة وجعلها موضوع جنس وسبي واغتصاب، ونقهر إنسانيّتنا لأنّه هو الحبّ والاحترام وقبول الآخر الّذي يولّد حضارة التّواصل والنّموّ الإنسانيّ والصّداقة، لنقدر أن نحمل إلى العالم كلمة الله الخلاصيّة، وعندها نقدر أن نجاوب على تساؤلاتنا الكبرى من أنا ومن أين أتيت وما معنى وجودي وإلى أين مصيري؟ فنعرف أن نزيل الالتباس بين الحقيقة والخيال.

"والويل لي إن كنتُ لا أبشّر ( 1 كو 9/16)، لأنّ ثلثي المليار والستّة في العالم اليوم ما زالت لا تعرف المسيح المعرفة الحقيقيّة. هذا هو التّحدّي الكبير الّذي لا نستطيع تجاهله، ألا وهو استشفاف الإنجيل في حياتنا اليوم، وكيف يمكن أن نكون في حالة إصغاء إلى نداء الرّوح القدس في "مهمّة نبويّة ودعوة تنادي بنصح الآلهة المزيّفة وأصنام العصر المزيّفة الّتي هي المادّيّة والمتعويّة واللّامبالاة والاستهلاكيّة والقوميّة الضّيّقة" (أخلاقيّات وآداب عدد 31).

 

ثقافة قبول الآخر المختلف

التّحدّي الكبير كيف يمكننا خدمة ثقافة اللّقاء ومدّ الجسور في أيّام الكراهيّة والبغضاء للآخر المختلف دينًا ولونًا وعرقًا وجنسًا وبيئة جغرافيّة أو ثقافيّة أو حضاريّة أو فولكلوريّة، وليس الاكتفاء بعالم المعرفة عن بعضنا البعض. "فالمعرفة عن الآخر شيء ومحبّة الآخر وبنيان المودّة معه والتّعاون وإيّاه في مواجهة حروف الدّهر شيء آخر" (التّواصل في خدمة الثّقافة ص. 6). ويجب أن يتحوّل التّواصل الرّقميّ إلى تواصل إنسانيّ أنتربولوجيّ وكشف ثيولوجيّ ولا نعيش في عزلة من المحبّة وحتّى من الحياة ولا تعود تصبح الأرض مسكنًا لإنسانيّة متصالحة وكي لا يصبح العالم مكان إقصاء وتهميش وفقر.

 

الصّمت والإصغاء

نحن نحتاج كما جاء في رسالة اليوم العالميّ للإعلام لقداسة البابا فرنسيس في 1 حزيران 2014 إلى إحلال الصّمت والإصغاء وإلى الصّبر والتّأنّي والهدوء والحنان والرّحمة، ونقدّم أفضل القيم العظيمة الّتي أوحت بها المسيحيّة مثل النّظرة إلى الإنسان كشخص والزّواج والأسرة والتّمييز بين الإطار الدّينيّ والإطار السّياسيّ ومبادئ التّضامن والمساعدة والحنان والحقيقة والالتزام الشّخصيّ (ص. 12- 13)، وعدم التّقوقع على الذّات (ص. 14)، وتقدر أن تلتقي البشريّة المجروحة كما السّامريّ ونسكب زيتًا وخمرًا على الجراح بمحبّة وحنان، ونحمل الإنسانيّة بفرح لنلاقي يسوع المسيح. وهكذا نطلّ على الألفيّة الجديدة ولا ندع البشريّة تصرخ "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟"، ونكون شهود المحبّة (يو13/ 34).

 

وخاصّة في تحدّيات آداب الدّعاية وأخلاقيّاتها ويجب ألّا نخلط بين الدّعاية والتّسويق فنخلق حاجات واهية تضرّ بالأفراد والأسرة ونعمل على اغتصاب عقول النّاس وقلوبهم ونجعلهم ضحيّة إغراءات خاطئة وكاذبة،  فنجرح الحشمة ونستغلّ الغريزة الجنسيّة لغايات سيّئة ونعتدي على الوعي الباطنيّ ونشلّ قدرة التّمييز والنّقد والمجابهة عند الإنسان، وخاصّة عند الشّباب والمراهقين مهينين الكرامة البشريّة بكلام أو صور صادمة تخلق أنماط حياة محرّمة وتدمّر الصّحّة الجسديّة والرّوحيّة، وتلغي الذّوق السّليم والحسّ النّقديّ، فنغذّي وننشر العنف والإباحيّة، فيصير الإنسان شيئًا وليس شخصًا، وبدل أن تكون وسائل الإعلام ثروة وغنًى تصبح خطرًا وضررًا.

 

 

 

كيف نبني عالم الشّخصانيّة؟

التّحدّي الكبير لنا اليوم كإعلاميّين هو كيف نبني ثقافة الحوار والاحترام والمحبّة والعدالة تجاه ثقافة الموت والإرهاب والكره والحقد والعداوة،ليبنى عالم الشّخصانيّة وتواصل الوجدانات وحرارة وحميميّة التّواصل والصّداقة واحترام الحياة وحقوق الإنسان وخير الخليقة.

لذلك علينا الرّجوع إلى:

1- وثائق المجمع الفاتيكانيّ الثّاني: البيان المجمعيّ "وسائل الإعلام الاجتماعيّ Inter Mirifica.

2- رسائل بولس السّادس والبابا يوحنّا بولس الثّاني بمناسبة اليوم العالميّ السّنويّ لوسائل الإعلام، وثائق المجلس الحبريّ لوسائل الاتّصال الاجتماعيّة.

3- التّعليم الرّعويّ Aetatis novae.

 

من الرّقيق الأسود إلى الرّقيق الأبيض

ونحن من الانتقال من عالم "الرّقيق الأسود" إلى الرّقيق الأبيض في عالم الدّعاية اليوم كي لا نغرق في الاثنوسنثريّة أو احتقار الثّقافات الأخرى في عنصريّة اجتماعيّة تجاه المستضعفين أو نظام التّفرقة، فنبني حضارة احترام الفروقات والتّنوّع والأخوّة والتّضامن لأنّ كرامة الإنسان تنبع من الّذي خلقه على صورته، أيّ الله وبالتجسّد الإلهيّ يضفي يسوع على الإنسان كرامة ابن الله الّذي بصليبه حقّق المصالحة وقضى على الانشقاقات وأعطانا المسيح رسالة كي نرحّب بالغرباء والمنبوذين والمهمّشين، ونساعد البشريّة في طريقها إلى الله بقوّة الرّوح القدس.

 

صناعة الرّأي العامّ

نحن صنّاع الرّأي العامّ المسيحيّ، علينا أن نواجه هذا التّحدّي الكبير في خلق رأي عامّ مسيحيّ عالميّ من خلال وسائل الإعلام، لأنّ صناعة الرّأي العامّ هو واجب دينيّ لنشر الحقيقة واحترام كرامة الشّخص البشريّ بصدق وأصالة.

فإنّ رسالة رجل الإعلام هي كما يقول ألبير كامو "أن يكون نوعًا ما مؤرّخ اللّحظة" (وسائل الإعلام وصناعة الرّأي العامّ، ص. 9)، وقول الحقيقة الّذي يتطلّب معرفة دقيقة للأحداث والابتعاد عن الرّشوة والفساد.

 

يسوع هو البشارة والرّسالة

أهمّ صناعة للرّأي العامّ المسيحيّ هي البشارة بالإنجيل، وأهمّ القيم الّتي هي العدالة والسّلام والقيم العائليّة وصياغة الحياة والحفاظ على "بيتنا" الّذي هو الأرض.

نحن اليوم بما في أيدينا من وسائل اتّصال وتواصل اجتماعيّ أمام فرصة كبيرة وتحدّ. أعظم كتابة صفحة جديدة في تاريخ الإنسانيّة من أجل حمل بشارة الإنجيل، إنجيل المحبّة والسّلام.