لبنان
29 أيلول 2017, 10:29

الأب أثناسيوس شهوان من المؤتمر الإعلاميّ الثّاني: "بين إعلام الله وإعلام قيصر"

"بينَ إعلامِ اللهِ وَإِعلامِ قَيْصَر"، حاضر رئيس قسم الإنتاج في المركز الأنطاكيّ الأرثوذكسيّ للإعلام الأب أثناسيوس شهوان في المؤتمر الإعلاميّ الثّاني "الإعلام المسيحيّ... نحو الاتّحاد"، فقال:

 

"فِي اليَومِ العِشرينَ مِنْ شهرِ حُزَيران العامَ ٢٠١٣م، صَدَرَ عَنِ المجمعِ الأنطاكيِّ المقدّسِ، الَّذي التَأَمَ في البلمند، بِرئاسَةِ صَاحِبِ الغِبطَةِ البطريركِ يوحنّا العاشر، قَرارُ إِنشاءِ مَركَزٍ إِعلاميٍّ بَطريركيٍّ بِاسم «المركزُ الأرثوذكسيُّ الأنطاكيُّ للإعلام» يتجاوبُ مَعَ مُستلزماتِ الإعلامِ السَّريعِ والفعّال،ِ ويَنْقُلُ البُشرى السَّارَةَ وأخبارَ البَطريركيّةِ إِلى العَالَمِ بِلُغَةِ العَصْرِ.

 

كَان واضحًا بشكلٍ جَلِّيٍّ أَنَّ ولادةَ مركزٍ يهتمُّ بالإعلامِ الكنسيِّ البشارّيِّ هو تَحَدٍّ في وَجْهِ الدَّهْرِيَّةِ، وأنَّ التِّنِّينَ الأحمرَ برؤوسِهِ السَّبْعَةِ وقُرونِهِ العَشْرَةِ وتِيجانِهِ السَّبْعَةِ الـمُزيّفةِ سَينفُثُ عَليهِ حُمَمَهُ كي لا يَلِدَ في النُّفُوسِ الابنَ الّذي يَرعى جميعَ الأُمَمِ بِكَلِمَةِ الَحقِّ (رؤيا ١٢).

 

لَعَلَّ أغلى إِعلانٍ على مَرِّ التّاريخِ هو ما أَعْلَنَهُ السنهدريمُ اليهوديُّ أمامَ بيلاطسَ البُنْطِيِّ:

 

ليسَ لنا مَلِكٌ إِلّا قَيْصَر.

 

هذا الإعلانُ كلَّفَهُم خلاصَهم.

 

منذ ذلك الحين وهم يتناقلونَ هذا الإعلانَ جيلاً بَعْدَ جيل، حتّى تربّعَ اليومَ على أعلى عروشِ العالمِ الدَّهريِّ، يَضعونَ في خِدْمَتِهِ كلَّ الإمكانيّاتِ ويُجَنِّدُونَ لَهُ كُلَّ الطَّاقات.

 

القيصرُ هو رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ، يُريدُ توحيدَ النّاسِ ليفرِّقَهُم؛ يَخْدَعُهُم بشعاراتِ الحُرِّيَّةِ ليَسْجُنَهم، يُطْلِقُ للأهواءِ العَنانَ لِيستعبِدَهُم.

 

هَدَفُهُ الحقيقيُّ لا نحنُ، بل هو.

 

يُريدُ أنْ يَقتُلَ الـمَلِكَ، أَنْ يتخلّصَ مِنْهُ، يَمْحُوَ ذِكْرَهُ، وَيُشَتِّتَ اسمَهُ.

 

في الماضي استبدَلَهُ بِمُجْرِمٍ هو باراباس.

 

اليومَ يُحاوِلُ استِبْدالَهُ بآلهةٍ مُزَيَّفَةٍ، بِشعاراتٍ فارغةٍ، بممارساتٍ هدَّامَةٍ، وبمعتقداتٍ مُهْلِكَةٍ.

 

يركّزُ على كلِّ فردٍ بمفردِه. انتقلَ بمهارةٍ وذكاءٍ حادٍّ دهريٍّ مِنَ الإعلامِ الجماعيِّ إِلى الإعلامِ الفرديِّ.

 

يُخاطِبُ كُلَّ واحدٍ مِنَّا، بالصّوتِ والصّورةِ والكتابةِ واللَّحنِ.

 

يَرِنُّ في هَواتِفنا الّتي لا تُغادِرُنا ولا تَبتَعِدُ عنّا.

يُرافِقُنا في كُلِّ مُجرَياتِ حَياتِنا، وتفاصيلِها اليوميّة: في البيتِ والعملِ والعُطْلَة.

 

لا يَسمحُ لِنَفْسِهِ أَنْ يُفارِقَنا لَحظةً واحِدَةً.

 

إِنْ غَفَلْنا عَنْهُ في رسالةٍ تَصِلُ إلى هاتِفنا الجوّال، يُخاطِبُنا في إعلانٍ على الطَّريقِ أو في مَشهدٍ تِلفزيونيّ أو في كِليبٍ غِنائيٍّ.

 

حاضرٌ في كلِّ مكان. نستيقظُ صباحًا، نتفحّصُ رسائلَنا وواتساباتِنا، وفي خِضمِّ انشغالاتِنا في النّهارِ يُقدِّمُ لنا العرضَ المغُريَ تِلوَ الآخر.

 

كُلَّ ما تَشْتَهِيهِ نُفوسُنا.

 

حاضرٌ ومتأهِّبٌ، لكن ليسَ لِخدمَتِنا بل لإهلاكِنا.

 

يجعلُ من أصابِعِنا وحواسِّنا رُفُوشًاً لِحَفْرِ قُبُورِنا.

 

كُلُّ ذَلِكَ بِاسْمِ التّطوّرِ والحُرّيّةِ والانفتاحِ والثَّقافةِ والعَصْرَنَةِ.

 

يُنادِينا بأسمائِنا، يَعْرِفُنا جَيّدًا، يُرافِقُنا دَائمًا، يُودِّعُنا في الصَّباحِ ويَسْتَقْبِلُنا في المساء.

 

نَجْلِسُ في بيتِنا فنَدعُوهُ بِإرادَتِنا. (الريموت كونترول (جِهازُ التَّحكُّمِ بَينَ أيدِينا. يَعْرِضُ نَفْسَهُ ويَسْتَعْرِضُ قُوَّتَهُ أمامَنا.

 

في البرامجِ والحواراتِ والإعلاناتِ والفيديو كليبات وكلِّ ما يَخْطُرُ ولا يَخْطُرُ على بالِنا.

 

نشيطٌ جدًّا، يُخاطِبُني، يُخاطِبُكَ، يُخاطِبُ زَوجَتَكَ وكُلَّ ولدٍ من أولادِكَ، في المدرسةِ والجامعةِ.

عِنْدَ الأصحابِ والرِّفَاقِ والأقارب.

 

لا يَكِلُّ، لا يَهدأُ، لا يَتعبُ، لا يَنعَسُ ولا يَنامُ، لا يتباطأُ ولا يَتردّد.

 

قيصرٌ نَشيطٌ جِدًا، ولكنَّهُ مهزوم.

 

نعم مهزوم. مَنْ هَزَمَهُ؟ مَنِ انتَصَرَ عليه؟

 

هَزَمَهُ الّذي اعتبرَ نفسَهُ أَنَّهُ انتَصرَ عليه.

 

هزمهُ الّذي أصدرَ الحُكْمَ بحقِّهِ بالصَّلْبِ.

 

هزمَهُ مَنِ اعتَقَدَ أَنَّهُ وَضَعَهُ في القَبْرِ جُثَّةً هامِدَةً.

 

هزمَهُ مَنْ أَمَرَ هو بِوَضْعِ الحجرِ على قَبْرِهِ كي لا يَخرجَ.

 

بالتّأكيد عَرَفْتُم مَنْ هو، هُوَ هُوَ، الكائنُ والّذي كان والّذي يأتي. (رؤيا٤:١)

 

يَسوعُ، الكائِنُ مِنْ ذَاتِهِ الّذي يُخَلِّصُ.

 

بَقِيَ القيصرُ في الخارجِ يَحرُسُ الحَجَرَ ولم يُشاهِدِ النُّورَ البازِغَ مِنَ القَبرِ.

 

ما العَمَلُ؟ طَرَحَ على نَفْسِهِ هذا السّؤالَ.

 

وأَردفَ:

 

فَلْأُسْرِعْ وَأُغْلِقْ قُلوبَ البَشَرِ وَأُظْلِمْ عُقولَ النّاسِ وَأُشَوِّشْ نُفوسَ العَالَم، أُقْلِقْ رَاحَتَهُم، أُبْعِدْهُمْ عَنِ الطَّريقِ المستقيم.

 

أُدْخِلْهمْ في نَفَقِ الاعوِجاج.

 

فَلْأُقَدِّمْ لَهُمُ أَطْباقًا جَميلةً وساحرةً مِنَ الخارجِ ولكنّها مُرَّةٌ مِنَ الدّاخل.

 

أَخْلِطِ السُّمَّ مَعَ العَسَلِ، أُمَيِّعِ الحقيقةَ، فلا يَعودُ الذَّكَرُ ذَكَرًا ولا الأُنثى أُنثى.

 

فَلْأَهْدِمِ العَائِلا. أُزِلِ القِيَم. أَجْعَلِ الأَبيضَ أسودَ والأَسودَ أبيض.

أَسُدَّ النَّوافِذَ والأبوابَ أمامَهُ، فلا يَدخُلُ قُلوبَهُم ويُريحُ نُفوسَهُم.

 

فَلْأَجْعَلْهُم يتكلّمون وينطِقُون بمفرداتٍ وكلماتٍ غيرِ مفهومة، لا يفقَهونَها، ولا يُدرِكُ جَوهَرَها مَن يَسمَعُها.

 

أَخْدَعْهُم، أَقُلْ لهم أَنتم في عالمِ الاتّصالاتِ، ولكن ما مِنْ مُجِيب.

 

أمامَ هذا كلِّهِ يُعلِنُ الرّبُّ الإعلانَ الأعظمَ والأثمنَ من إعلانِ قيصرَ بما لا يُقاس، إِعلانًا دَفَعَهُ الرّبُّ دمًا وجَلْدًا وشَوْكًا وصَلْبًا ومَوْتًا ولكن أيضًا قيامةً.

 

هو إِعلانُ الظَّفَر.

 

إِعلانُ الحياةِ الأبديّةِ الّتي تبدأُ مِنْ هُنا، اليومَ والآن.

 

ويُنادِينا الرَّبُّ ويقول لنا: هلمُّوا، «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ». (يوحنّا ١٧:٥)

 

يَعْمَلُ كُلَّ يومٍ، حتّى في راحتنِا يَعمَلُ، ويدعونا لنعملَ مَعَهُ بروحِهِ القدّوس.

 

ولكن مهلًا:

 

ماذا نَعملُ وكيف نعملُ؟ وهل سنقدِّمُ للعالَمِ قَيصرًا آخرَ.

 

هنا السّؤالُ الجوهريُّ:

 

هل نقدّمُ للعالَمِ ذواتِنا أَمْ كَلِمَةَ الله؟

هل نُقدِّمُ مِمَّا عِنْدَنا أم مِمَّا عِنْدَهُ هُوَ؟

 

نقولُ في القُدّاسِ الإلهيّ: «مِمّا لَكَ، نقدّمهُ لكَ، عَنْ كُلِّ شيءٍ، ومِنْ أَجْلِ كلِّ شيء».

 

هنا بيتُ القَصِيد: «مِمَّا لَكَ».

 

لِنَنْتَبِهْ جَيِّدًا. لا أحدَ يستطيعُ أَنْ يُقَدِّمَ شيئًا لا يَمْلِكُهُ.

 

إعلامُنا يَجِبُ أن يكونَ إِعلامَهُ هُوَ.

كَلمَتُنا يجبُ أن تَكونَ كَلِمَتَهُ هو.

ليستِ الكميّةُ مُهِمَّةً بل النَّوعِيَّة.

لا يُمكِنُنا أَنْ نُقَدِّمَ فَراغًا أَمَامَ فَراغٍ آخر.

 

وهنا أَصِلُ إِلى النّهاية:

 

قد نقولُ إنَّنا بحاجةٍ إلى طُرُقٍ جديدةٍ، عصريّةٍ، متطوّرةٍ، إلى لغةٍ جديدةٍ ومُفرداتٍ جديدةٍ نُخاطِبُ بها جِيلَ اليومِ وجيلَ المستقبل.

 

لا، اسمحوا لي. هذا فَخٌّ مِنْ فِخَاخِ قَيْصَرَ القَدِيمِ المهزوم.
فليسِ الأمرُ أن نجِدَ طُرُقًا جديدةً بل أن نجِدَ الطّريق.

 

إِنْ لَمْ نَرْجِعْ إِلى قَدِيمِنا لَنْ يَكُونَ لنا جَديد.

إِنْ لم نَعُدْ إِلى تَسلِيمِنا لَنْ نَسْلَمَ.

إِنْ لم نَسْتَنِرْ مِنْ شَرْقِنا لنْ نُشْرِقَ.

وإِنْ لم نَتألّهْ مِنْ إِلَهِنا وَبِإلَهِنا لَنْ نُؤَلِّهَ العَالَمَ.

 

كُلُّ وَسائِلِنا التّكنولوجيّةِ اليومَ والرّسائلِ الإلكترونيّةِ وصَفْحاتِنا الفيسبوكيّةِ ومَواقِعِنا الرّسميّةِ والبِشاريّةِ إِنْ لم تَكُنْ نابعةً من قلوبٍ تُصلّي فإنَّها لَنْ تُفيد.

وإن لم تَكُنْ منبثِقةً من نفوسٍ تائبةٍ فلن تُصيب.

وإن لم تكن مولودةً من عيشِ الإنجيلِ فلن تُعطيَ ثمرًا.

 

وإن لم تَكُنْ تُتَرجِمُ عِشْقَنا الأوّلَ لِـمَلِكِنا الحقيقيِّ الرّبِّ يسوعَ المسيحِ فإنَّها لن تَفعلَ ولن تُغيّرَ في البشريّة.

 

سَئِمَ العَالَمُ مِنْ كَثرةِ الكَلام.

يُريدُ الرَّبُّ نُفوسًا تَشْهَدُ لهُ قَولًا وَفِعلًا.

 

نَعم، لا نَسْتَغْرِبَنّ! النِعمَةُ، إِنْ عِشناها، تَنتقِلُ عِبرَ الإنترنت إلى الآخرين.

 

لم يَتْرُكِ الآباءُ القدّيسونَ وسيلةً في عَصْرِهِم إلَّا استعملوها ليَنْقُلوا كلمةَ اللهِ لِلعالَمِ، ولكنَّهُم تَرجموا ما كانوا هُم عليه.

 

كانَ يكفي أَنْ يَعرِفَ النَّاسُ مَنِ الَّذِي يُخَاطِبُهم ليستقيموا.

 

كلمةٌ واحدةٌ كانت تَكفي. لماذا؟ لأنَّ نَاطِقَها جَبَلَ نَفْسَهُ بِكَلِمَةِ اللهِ الـمُتَجَسِّد.

 

كانوا يجتازونَ مسافاتٍ أو يَقْصِدُونَ المغاورَ ويَصْعَدُونَ الجبالَ ويَدْخُلونَ عُمْقَ الصّحراءِ ليسمعوا كلَمةً واحدةً مفيدةً مِنْ شَيْخٍ جليلٍ مُصَلٍّ فيأخذوها تِرْياقًا لهم.

 

نحن اليومَ لا نخافُ، ولا نخشى كُلَّ ما يجري.

لقيصرَ أبواقُهُ ولملكِنا أبواقُه.

لقيصرَ أساليبُه وللمسيحِ طُرُقُه، وهي غريبةٌ عجيبة. فعندما نقولُ: «إعلامٌ كنسيٌّ»، ننتقلُ مِنْ عالَمٍ إلى عالَمٍ آخر مختلفٍ بالكلّيَّةِ، مِنْ عالَمٍ يَعتَمِدُ الفِكرَ البشريَّ إلى عالَمٍ ينبثقُ من إعلانٍ إلهيّ.

 

لنُعمِّدْ أفكارَنا من جديد، فينضَحَ إعلامُنا نورًا يُبَدِّدُ ظلامَ العالَمِ ويَهْدِمُ أريحا ويُزَعْزِعُ رَكائِزَ بابل، عندها فقط إذا سألَ الـمُتَلَقِّي:مَنِ الطّارقُ؟ يُجيبُهُ السّيّدُ بنفسِهِ: أنا هو الطّارقُ وأنتَ ابني الّذي به سُرِرْتُ، آمين".