لبنان
17 نيسان 2018, 14:00

إنتربولوجيا الوجه أو نارسيس NARCISSE والعشق للذّات والغرور

نارسيس يعشق صورته، ومعجب بذاته. في الميثة Le Mythe الإغريقيّة يجلس نارسيس على حافة البحيرة الهادئة ينظر إلى وجهه ينعكس في المياه فيغرم بصورته أو بذاته ولا يسمع ولا ينظر إلى حوريّات الغابة الجميلات ينادينه ليلتفت لهنّ ويخرج من ذاته ليلتفت لهنّ ويخرج من ذاته ليلتقي بهنّ بين أشجار الغابة المحيطة بالبحيرة تمرّ الحوريّات الرّائعة الجمال ينادين نارسيس لينظر إليهنّ ويلحق بهنّ ويعشق ويحبّ واحدة منهنّ، آملات منه أن يخرج من الهيام بذاته والعشق لجماله وهو يتمرّى في المياه حيث لا يرى إلّا بهاء وجهه وجمال طلعته، معجب هو بنفسه، مغرم بذاته، مسحور بوجهه من دون النّظر إلى أوجه الآخرين، هو كلّ شيء لذاته وهو محور العالم.

 

ولكثرة تعلّقه بجمال ذاته والالتصاق بوجهه في البحيرة حتّى إنّه ينزل إليه ليلتقيه ويختنق لانّه لم يسمع نداء الحبّ عند سواه ولا لسحر الآخر الذي ينظر إليه فيعطي معنى لحياته وجماله. وأزهرت في البحيرة زهرة النّرجس وبقي الصّوت يتردّد في الغابة: نارسيس! نارسيس! إنّها قصّة الإعجاب بالذّات.

 المراهنة والحالة النّرسيسيّة 

هذه الحالة النّرسيسيّة ترافق خاصّة عمر المراهقة حيث يأخذ الإنسان ذكرًا كان أم أنثى بالوقوف أمام المرآة والإعجاب بجمال وجهه وجسمه وكلامه وأفكاره وأعماله. لكنّها تزول رويدًا رويدًا مع النّضج ولقاء الآخرين واكتشاف غناهم فيأخذ الإنسان شيئًا فشيئًا بالتّوقف عن الانبهار بذاته ومديح نفسه وكثرة مزاياه لينطلق بعمليّة حبّ واحترام للقاء الآخر ومرافقته ومشاركته الوجود والحياة والأفراج والأحزان، والإصغاء إليه والاغتناء به...


 نرسيسيّة الإنسان الشّرقيّ العربيّ 

مشكلة الإنسان الشّرقيّ المكبوت المعقّد هي هذه المراهقة الدّائمة والمستمرّة حتّى ولو تقدّم  به السّن والوصول إلى الشّيخوخة. هذا ما نلاحظه في الكثير من التّصرفات المرضيّة والتّغزل المرضيّ أو في الكبت والقهر والقمع وإجبار المرأة على التّحجب وإخفاء كلّ ما عندها من فتون وإثارة وجمال تحت لون أسود يقبر الحسن وما أعطى الله من جمال الحجاب له وظيفة جسديّة وليس دينيّة.
والجمال هو انعكاس لجمال الله وروعة خلقه وسرّ سحر ما صنعت يداه ليخرج الإنسان من «سأمه» كما كتب الشّاعر صلاح لبكي في كتابه «سأم». هذا الضّجر من الذّات ومن الوحدة لا يبدّده ويكسره إلّا حضور الآخر وحبّه لمشاركتنا وجودنا الإنسانيّ.

 الخروج من الذّات هو الشّفاء 

عندها نخرج من ذاتنا ومن أنانيّتنا ومن أناشيد المديح لمّا نفكّر ونقول ونعمل ولا نعد نقيم الكلام لوحدنا Solologue أو التّكلم مع ذاتنا Monologue بل نقيم حوارًا مع آخر    Dialogue   وهذا الآخر هو المفترق عنّا. ونكفّ عن التّباهي بالذّات أو مديحها أو الاعجاب بها ونقلع عن "التّلغيز" و"التّلميز" و"التّلطيش" والمداعبة الكلاميّة أو التّغزّل الطّفوليّ من دون رجولة ورصانة بل «بشطة ريق» و«نفس خضراء» و«ضربة عين»، لا تدلّ على النّضج والشّبع من العمر واحترام الذّات.

 الحالة الطّاووسيّة 

الحالة النّرسيسيّة تدوم مع العمر ولا يخرج الإنسان منها إلّا بالّنضج العاطفيّ والعقليّ والسّلوكيّ. فلا يبقى سلوكيًّا وتصرّفنا وتفكيرنا قولًا وفعلاً في مرحلة مراهقة مستمرّة عائشًا بين مرايا وجه في المرآة أو في نظر الآخيرين. إنّها حالة مرضيّة لا يعرف فيها معنى الكرم والمجانيّة والتّضحية والتّواضع، والبساطة والانمحاء والإصغاء والكفّ عن الادّعاء والبقاء في حالة «طاووسيّة» طوال العمر وشهوة التّملك والامتلاك غير عارف أيّ معنى للعطاء والكرم والمجانيّة تخفّ هذه الحالة عند الذين يخدمون ويهتمون بسواهم كالأهل مثلًا أو الذين يسهرون على خدمة الآخرين.
وحده حلّ العطاء والبذل والخدمة والتّضحية من أجل الآخر هو الدّواء الشّافي والعلاج النّاجع للكثير من هذه الأمراض النّفسيّة التي تصيب الإنسان كلّ إنسان وتعطي الاستقرار النّفسيّ والتّوازن العقليّ والعاطفيّ والسّلوكيّ ايّ الخروج من الذّات ومن عبادتها في الإعجاب في الذّات وجمالها: شكلًا جسديًّا أو صوتًا جميلًا أو إبداعًا فنيًّا أو فكريًّا أو رياضيًّا أو سواها من المواهب التي سكبها الله علينا من جماله هو ومن حبّه لنا يوم لامست يداه تراباتنا الفانية وكياننا المعطوب والمكسور والمضروب بالغربة والكآبة، من دون شفاء أو استقرار وسكينة لأنّ الإنسان في صيرورة دائمة (En devenir) ذاهب إلى اكتمال ذاته فليس هو كائن في ذاته En - Soi بل هو كائن في جميع رغباته Pou - Soi ونداءاته الكيانيّة الوجوديّة لأنّه هو كائن «المعية»، أي أن تكون تعني أن تكون مع آخر وليس ملتصقًا بذاتك لا تستطيع التّنفّس والحياة، بل أنت في اختناق وجوديّ لا شفاء لك منه إلّا أن تنظر وتشتهي وتحبّ آخر والتّصوف هو هذا العشق الإلهيّ للآخر المطلق الأزليّ الوحيد السّرمديّ مشتى القلب والعقل.