لبنان
17 تشرين الأول 2023, 06:30

إفتتاح المؤتمر العلميّ الدّوليّ في جامعة البلمند برعاية البطريرك يوحنّا العاشر وحضوره

تيلي لوميار/ نورسات
برعاية بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس يوحنّا العاشر وحضوره، افتتحت جامعة البلمند مساءً، في أوديتوريوم الزّاخم، المؤتمر العلميّ الدّوليّ بعنوان: "الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة من القرن الخامس عشر إلى القرن الثّامن عشر: نحو فهمٍ دقيق للتّاريخ"، بتنظيم من معهد القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ اللّاهوتيّ في جامعة البلمند، بحضور الرّئيسين السّابقين للجمهوريّة اللّبنانيّة ميشال عون وميشال سليمان، ونائب رئيس مجلس النّوّاب الياس بو صعب ممثّلاً الرّئيس نبيه برّي، ونائب رئيس مجلس الوزراء الدّكتور سعادة الشّامي ممثّلاً رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، ورئيس جامعة البلمند الدّكتور الياس ورّاق، إضافة إلى المطارنة أعضاء المجمع الأنطاكيّ المقدّس والأساقفة، وعمداء الكلّيّات في الجامعة، وشخصيّات سياسيّة، دينيّة، اجتماعيّة، ثقافيّة، تربويّة، أمنيّة، عسكريّة، وإعلاميّة.

بداية، قدّمت جوقة القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ اللّاهوتيّ في جامعة البلمند باقة من التّراتيل. وبعد النّشيد الوطنيّ اللّبنانيّ ونشيد جامعة البلمند، رحّب مقدّم الحفل الإعلاميّ إيلي أحوش بالحضور، ثمّ ألقى الأرشمندريت يعقوب خليل كلمة ترحيبيّة، تطرّق فيها، بحسب إعلام البطريركيّة، إلى أهمّيّة هذا المؤتمر على الصّعيدين الكنسيّ والعلميّ منوّهًا بمشاركة نخبة من ذوي الاختصاص في تاريخ كنيسة أنطاكية الأرثوذكسيّة. ولفت إلى أنّ "الدّراسات الّتي ستُقرأ، حضوريًّا أو عن بُعد، هي أصيلةٌ من حيث أنّها جمعت وحلَّلت معلومات نقّبها الباحثون من وثائق ومحفوظات، لا فقط في أرشيف بطريركيّتنا والأبرشيّات والأديار، بل وفي إسطنبول وبوخارست وياش وكييف وموسكو وروما وسواها من المدن".

وشدّد على أنّ "الدّراسات المقدّمة تساعد على التّحقّق من هُوِيّة كنيسة أنطاكيّة الّتي لم تتغيّر إلى الآنَ، والّتي تتجلّى عبر روحِ الوحدة الّتي جمعت بين كلّ كنائس الشّرق الأُرثوذكسيّة منذ الانشقاق الكبير، مرورًا برفضها مقرّرات مجمعِ فرّارا– فلورنسا، وانتهاءً بتضامنها زمن غزوة الاقتناص الغربيّ، كما تبيّن كيف كان التّعاون في البطريركيّات الشّرقيّة كافّةً يتخطّى كلّ حدود مناطقيّة أو إثنيّة أو لغويّة".

بعدها كانت كلمة رئيس الجامعة البروفيسور الياس ورّاق قال فيها: "إنَّ هذا المؤتمر إنَمَّا هو خيرُ دليلٍ على دورِ لبنان الرّياديّ ليسَ فقط في التّربيةِ والتّعليمِ العالي، وإنَّما في نشرِ المعرفةِ والتّوعية بما اختَصَّ بتاريخِ الأديانِ السّماوية والحضاراتِ الإنسانية الّتي بدَأَتْ مفاهيمُها تضمحِّلُ وعسى ألّا تختفي.

إنَّ جامعة البلمند اليوم، وفي أكثرِ من أيِّ وقتٍ مضى، تلعبُ دورًا أساسيًّا في الحفاظ على المستوى الأكاديميّ الجامعيّ الّذي لطالما تميَّز بهِ لبنان في الشّرقِ الأوسط والعالم. فبالرّغمِ منَ المصاعِبِ الجَمَّةِ، والأزماتِ المتكرِّرة، والمآسي اللّامتناهية الّتي كُنّا ولم نَزَل نُعاني منها في هذا الوطن العزيز، أصرَّت جامعاتُ لبنان عامّةً وجامعةُ البلمند خاصّةً أن تلعبَ دورًا جوهريًّا ليس فقط على الصّعيد الأكاديميّ وإنّما على الصّعيد المجتمعيّ".

وشدّد على أهمّيّة قيام الجامعات بدورها قائلًا: "نَعَم حينَ تقومُ الجامعات بهذهِ الرّسالةِ، ينتفي وجودُ الظّالمين، ويختفي حضورُ أباطرةِ الحرب، حيث نَشْهدُ أنّ العالمَ اليوم محكومٌ بجنونِ العَظَمَةِ لحكامٍ موتورين يعشقون الحروبَ ويعبدونَ إراقةَ دماءِ الأبرياءِ ويحيونَ لاغتصابِ ثرواتِ الطّبيعةِ والبشر لإشباعِ شَبَقِهِم بالسّلطةِ والنّفوذِ والمال".

وإختتم كلمته قائلاً: "أودُّ أنْ أُرحِّبَ بِكُم مجدّدًا في رحابِ هذا الصّرحِ العلميّ المقدّس داعيًا ربَّ العالمينَ أنْ يجعَلَنا قادرينَ على إبقاءِ كلمةَ الحقِّ في أقوالِنا، وترسيخِ نورِ الإيمانِ في عقولِنا، وتجسيدِ الرّحمةِ في قلوبِنا".

بدوره ألقى البطريرك يوحنّا العاشر كلمة افتتاحيّة أمام الحضور جاء فيها:

"يسعدني في هذه الأمسية المباركة، أن أكون بينكم اليوم، وأن أفتتح معكم، من على هذه التّلّة البلمنديّة المباركة أعمالَ هذا المؤتمر العلميّ الدّوليّ حول "الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة من القرن الخامس عشر إلى القرن الثّامن عشر- نحو فهم دقيق للتّاريخ".

وإذ أرحّب بكم جميعًا بيننا، إخوةً أحبّاء، أستمطر بركاتِ الله عليكم، وأتضرّع إلى سيّدتنا الدّائمة البتوليّة مريم، شفيعةِ هذا المكان، أن تغمركم بحنانها وتتشفّع إلى ابنها من أجلنا جميعًا، حتى نبقى أمناء لما أوصتنا به، أعني "مهما قال لكم فافعلوه".

إنّ الفهم الدّقيق للتّاريخ الّذي يتضمّنه عنوان المؤتمر يرتكز على القاعدة العلميّة الّتي تعتبر أنّ التّاريخ ليس وُجهةَ نظر، بل مجموعةً من الوقائع والأحداث الّتي ندرسها لنستبين ما حصل بالفعل، فنستخلِصَ العِبر. ولأنّ موضوعنا يتناول التّاريخ الكنسيّ بالتّحديد، فهو يندرج ضمن السّعي لفداء التّاريخ وتصويبِ المسار من جديد ومداواةِ الجراح ورأب كلِّ صَدع.  

غير أنّ شرّ البليّة أنّ قراءة التّاريخ تتبدّل وتتلوّن بحسب المصالح الآنيّة؛ بحيث ينقلب الأبيضُ إلى أسودَ، وتتحوّلُ الوقائع إلى وجهات نظر! نعم، يؤسفنا كثيرًا أنّ البعض يرتاح لمبدأ "حِقبة ما بعد الحقيقة" ويعتبره أساسًا للتّعامل. بحيث صارت الحقيقةُ عند البعض مرادفةً لما تصدّقه الجماهير، أيّ وليدةَ السّفسطائيّة والشّعبويّة، أمّا الحقائقُ التّاريخيّة فمتروكةٌ عند هؤلاء في غياهب النّسيان. ففي حِقبة ما بعد الحقيقة هذه والضّجيجِ المرتبط بها، نحتاج أكثرَ من أيّ وقت مضى إلى البحث العلميّ وإظهار الوقائع. لذا أردنا هذا المؤتمر العلميّ اليوم، ليتناول مرحلة صعبة من تاريخ كنيسة أنطاكية، وهي الكنيسة الأولى الّتي أسّسها بطرس الرّسول، والّتي "دعي فيها التّلاميذ مسيحيّين أوّلاً" (أعمال 11: 26)، والّتي خرج منها إغناطيوس الحامل الإله (+107م) الّذي فيما هو في طريقه لأن يُطحَن بين أنياب الأسود في روما خاطب الكنيسة جمعاء بوصاياه الّتي لا تزال مرجعًا كنسيًّا جامعًا. وأيضًا القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ معلّم المسكونة الّذي سيق كحملٍ إلى المنفى المجهول وأسلم الرّوح على الدّرب نتيجة قرارات المجمع الّذي انعقد تحت "سنديانة" سياسة الإمبَراطوريّة في ذلك الزّمن، أيّ خارج صحن الكنيسة الّذي أبى الذّهبيّ الفمّ إلّا أن يُسلم روحه إلى ربّه فيه. وكذلك القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ المدافع عن الإيمان وكاتبه باليد الّتي أعادتها إليه العذراء بعد قطعها لأنّه كان يقول قولة الإيمان الحقّ. ولا ننسى البطريرك بطرس الثّالث الّذي سعى بكلّ ما أوتي من حكمة وقوّة لكي يمنع الانشقاق بين القسطنطينيّة وروما ولكي يُبقي الخلاف بينهما ضمن أسوار الكنيسة، فلا تتحوّل الاختلافات، ولاسيّما الصّغيرة منها، إلى سببٍ للتّباعد والفرقة والشّرذمة والعداء، ولغياب المحبّة.

وفي سياق الحفاظ على روحيّة بطرس الثّالث، الّذي رأى نفسه "عظمًا من عظام أنطاكية ودمًا من دمائها"، وعلى خطى سلفه الرّسول بطرس، الّذي حمل اسمه والّذي خلفه أيضًا في رعاية خراف المسيح في المدينة الأمّ، تظلّ كنيسةُ أنطاكية، البطريركيّةُ الرّسوليّة، والكرسيُّ البطرسيّ الأوّل، كنيسةَ المشاركة والشّورى والانفتاح والسّلام. وهي تبقى كنيسةً لها موقعُها ومَرجِعِيّتُها بين الكنائس. يؤلمها ويحزنها كلُّ انقسام بين الكنائس الأخرى مثلَما آلمها انسلاخ شريحةٍ من أبنائها الّذين نقضوا مَرجِعيّتها ككنيسةٍ لها ملءُ الكِيان الكنسيّ، وككنيسةٍ مساوية في الكرامة للكنيسة الثّانيةِ المؤسَّسة من قبل هامة الرّسل. كنيسةٌ وعت أنّ دورها المرجِعيّ لا يختلف بشيء عن دور البطريركيّات الرّسوليّة القديمة الأخرى. كنيسةٌ أدرك بطريركُها بطرس الثّالث أنّ مسوؤليّته تقضي بتفادي الانشقاق بين الكنيستين الشّقيقتين.

ومن سلفنا البطريرك بطرس الثّالث، تعلّمنا أنّ إيمان كنيستنا يتمثّل بأنّ الشّركة الحقيقيّة لا يمكن تحقيقها إلّا من خلال الشّورى والاحترام المتبادل بين الكنائس، ومن خلال طاعة الجماعة الكاملة لربّها وإلهها ومخلّصها يسوع المسيح، وفي الوئام والسّلام الّذي ينحدر من الرّوح القدس، وبعيدًا عن أيّ منطق دنيويّ للسّيطرة والهيمنة وإخضاع الآخرين. وهل أجملُ وأصدقُ من تشبيه البطريرك بطرس الثّالث للبطريركيّات الخمسة بالحواس الخمس المتساوية، والّتي تعمل معًا وبتناغم داخلَ جسد الكنيسة، الّذي رأسُه الوحيد هو يسوع المسيح، الذي وعد بأن يكون معنا دائمًا وحتّى انقضاء الدّهر.

وكما كان البطريرك الأنطاكيّ بطرس الثّالث جريئًا في لاهوته الكنسيّ هذا، الّذي تضمّنته مراسلاتُه مع روما والعالم اللّاتينيّ، كان جريئًا أيضًا ووفيًّا للّاهوت الكنسيّ الأرثوذكسيّ الأصيل في تفاعله مع البطريرك المسكونيّ ميخائيل كيرولاريوس، عندما ذكّره بأنّ "العرش الرّسوليّ لأنطاكية ليس تحت العرش الخاصّ بالقسطنطينيّة".

حبّذا لو سمع معاصرو البطريرك الأنطاكيّ لصوته وأدركوا أنّ لا مكان للشّهوة والسّلطة والسّيطرة في جسد المسيح! وحبّذا لو يسمع إخوتُنا اليوم، الّذين يرفضون الاحتكام للمجمعيّة ويقولون بأولية الكراسي وعِصمتها، كلامَ البطريرك هذا. فطمسُ الحِسّ المجمعيّ خطيئة. فالمجمعيّة هي نُقطة الانطلاق لكلّ مَن يريد الحفاظ على الوَحدة، ولا يسعى لعزل الآخرين وتهميشهم.

ولكنّ التّاريخ، وحتّى الكنسيَّ منه، لا يكتبه الحكماء والقدّيسون دائمًا، ولذلك لم تلقَ حكمة البطريرك الأنطاكيّ أيّ صدى عند المتخاصمين، وتكرَّس الانشقاق بين الشّرق والغرب وتعمَّق مع مرور الزّمن وتوالي المآسي. ولم تَسلم أنطاكية من تداعيات الانشقاق الكبير، والصّراع على السّلطة، وتحوّلت كنيستها إلى أرض للغزو والاقتناص.

وتعمّق الانشقاق واتّخذ كينونةً ووجودًا مع ما سمّي بالحملات الصّليبيّة الّتي اجتثت البطاركة الأنطاكيّين الأرثوذكس من كراسيهم ووضعت مكانهم البطاركة اللّاتين.

وبالرَّغم من الصّعوبات والاضطهادات الشّديدة الّتي عانينا منها في عصر المماليك وغيرِها من عصور، لم يغِب أبدًا عن قادة كنيسة أنطاكية أنّ الرّدّ الوحيد على محاولات الوَحدة، من خلال الإكراه والإغراءات المادّيّة والدّنيويّة، يكونُ بالإخلاص الكلّيّ والتّامّ لروح المجمعيّة الأرثوذكسيّة. ومن هنا كان رفض أنطاكية كما سواها لمجمع فرارا فلورنسا سنة 1439 المجمع الّذي انعقد على شفير انهيار امبراطوريّة الرّوم.  

وتوالت السّنوات بقَسوتها على المسيحيّين في هذا المدى الأنطاكيّ المعذّب. ومع قدوم العثمانيّين وأولى محاولات الاستعمار الغربيّ في الشّرق، أرسلت روما مبشّرين إلينا، لا لمساعدة المسيحيّين المضطهدين، ولكن لإغرائهم للانضمام إليها، وترافق ذلك مع وعودٍ بفُرَصٍ تجاريّة واقتصاديّة وحمايات سياسيّة من قبل القوى الأوروبيّة، فضعُف مَن ضعُف وانضمّ مَن انضمّ!

ولم يكن ما تقدّم، بسبب ما يلصقه البعض من اتّهامات بحقّ الإكليروس الأنطاكيّ، وما يروّجونه حول إهمالِهم للرّعيّة وغيابِ العناية الرّوحيّة بالمؤمنين. فبطاركة أنطاكية منذ القرن السّابع عشر أمثال ملاتيوس كرمة (١٦٣٤-١٦٣٥م)، ومكاريوس الثّالث ابن الزّعيم (١٦٤٨-١٦٧٢م)، وأثناسيوس الثّالث دبّاس، لم يألوا جُهدًا جَهودًا من أجل تثقيف الرّعيّة وتأمين احتياجاتها والحفاظ على الإيمان الأرثوذكسيّ، فأسفرت جهودهم عن قيام نهضة رعائيّة وتجديد ثقافيّ وروحيّ في بطريركيّة أنطاكية.  

ستتيح لكم محاور هذا المؤتمر تقدير الرّؤية النّهضويّة الّتي عملت الكنيسة الأنطاكيّة على تحقيقها بالرّغم من الحالة الاجتماعيّة السّيّئة وتحدّيات الوضع المعيشيّ في الشّرق الأوسط آنذاك. فمهما حاول البعض طمس الحقائق أو تشويهها، فإنّهم لن يستطيعوا إخفاء ما تحقّق في مجالات عديدة، منها: مراجعة الكتب والتّدقيق العلميّ والنّقديّ بنصوصها، وطباعتها باللّغة العربيّة في المطابع، وتحديد كيفيّة اختيار الكهنة وانتخابِ الأساقفة، وتنشئة الكهنة في إكليريكيّات ومدارسَ لاهوتيّة، وتجديد العديد من مباني الكنائس وأيقوناتها، وتوفير أموال الإغاثة للأُسَر المحتاجة، وفتح مدارسَ لتعليم الأولاد، وتنظيم المحاكم الرّوحيّة والإشرافُ على عملها، وضبط قوانينِ الزّواج والأحوال الشّخصيّة، وبثّ الحياة الرّهبانيّة في الأديار. لقد امتزجت أتعابهم بعرق المثابرة ودموع الصّلوات ودم الشّهادة. كانت لديهم رؤيةٌ واضحةٌ وصحيحةٌ للنّهضة الكنسيّة ولكيفيّة تثبيت الرّعيّة في الإيمان الأرثوذكسيّ الأصيل، بالرَّغم من الضّغط الهائل من الدّاخل والخارج لزعزعة استقرار حياة الكنيسة وثقة المؤمنين بها.

وستتسنّى لكم فُرصة الاطّلاع على هذا الحراك النّهضويّ الّذي اضطلع به البطاركة والمطارنة الأنطاكيّون رَغم كلّ التّحدّيات ومحاولات الاختراق ونثر بذور الانشقاق، والبحثِ بدقّة في كلّ هذه المواضيع والأحداث وغيرها خلال اليومين القادمين، وذلك من أجل أخذ العِبَر والحيلولة دون تكرار المآسي ذاتها، ولاسيّما في هذه الأيّام الصّعبة الّتي تشهدها دولنا، والّتي يسعى فيها الكثيرون في الدّاخل وراء حمايات مزعومة، كما يسعى الكثيرون في الخارج لشراء الضّمائر والولاءات واستمالة المحتاجين أو ضعيفي النّفوس.

من الباب الأخويّ أترك للّذين تركونا وانضمّوا إلى الغرب، وِفق اتّفاق سمح لهم بالمحافظة على طقوسهم والإبقاء على النّظام البطريركيّ، تقييمَ نتائج خيارهم ولاسيّما أنّ هذه التّلّةَ البلمنديّة قد شهِدت، في زمن ليس ببعيد، لقاءً كنسيًّا حواريًّا أرثوذكسيًّا– كاثوليكيًّا (1993م) درس جدوى هذه المقاربة الانضماميّة سبيلًا للوحدة المنشودة بين الكنائس وأسقطها من الاعتبار كسبيل مُجدٍ في المسعى الوحدويّ. وقد اعتذر البابا يوحنّا بولس الثّاني، بجرأته المعهودة، في العام ٢٠٠٠ من الكنيسة الشّرقيّة الأرثوذكسيّة عن الأخطاء الّتي قامت بها كنيسة روما، في العصور الوسطى، تجاه الشّرق المسيحيّ والّتي أدّت إلى انقسام المسيحيّين.

ومن باب أبويّ أقول: إنّ كرسيَّنا الأنطاكيّ عانى بسبب غياب الأخوّة، ووقع تحت وِصايةٍ كان لها ما لها وما عليها، ولكنّه استطاع في مطلع القرن العشرين أن يدخل في مرحلة جديدة دشّنها انتخاب البطريرك ملاتيوس الدّومانيّ.

إلى هذا، لا بدّ لي من شكر الله، لأنّه أعطانا نحن المسيحيّين الّذين أُوجدنا في هذا المدى الأنطاكيّ، بأن نتجاوز الصّعوبات، بالرَّغم من تعرّجات التّاريخ ووعورته علينا، ونتقاربَ فيما بيننا، وبأن نزيل مفاعيل الانقسام من نفوسنا، وبأن نشعر بأنّنا عائلةٌ واحدة للآب. إنّ حياتنا المشتركة في هذا المدى، زادت شعورَنا بأهمّيّة وحدتنا، وجعلت علاقاتنا تقوم على التّلاقي في المسيح يسوع وليس على المجاملات الشّكليّة. ولذلك سنستمِرّ في العمل معًا، من أجل تمتين روابط الأخوّة والمحبّة بين كنائسنا، ومن أجل الشّهادة الواحدة للمسيح يسوع.

وفي جوّ المحبّة هذا، لا بدّ لنا على الصّعيد الأنطاكيّ، أن نخترق حواجز التّاريخ، ونهدِم ما تبقّى من جدران العداوة، وأن نقلع عن المجاملات العاطفيّة وعن التّقارب السّطحيّ، وأن نترجم محبّتنا لبعضنا البعض، مكاشفةً صادقة، وتفعيلًا للحوار اللّاهوتيّ المحلّيّ، وتعميقًا للأبحاث التّاريخيّة المشتركة، علّنا نستطيع أن نعزّز هُوِيَّتنا الأنطاكيّة الحقيقيّة، من خلال أعمالٍ علميّةٍ مشتركةٍ تساهم في شفاء ذاكرتنا التّاريخيّة. وقد بدأت مسيرة الشّفاء هذه، كما أشرنا أعلاه، على هذه التّلّة البلمنديّة منذ ثلاثين سنة، لمّا رُفض أسلوب الانضمام إلى روما كمنهج للوَحدة. ولذلك، فإنّنا نتطلّع أن يكون هذا المؤتمر الّذي أردناه منطلقًا لفهم تاريخنا بدقّة، المدماكَ الأوّل، الّذي يؤسّس لعمل مشترك مع إخوتنا يسمح بقراءة تاريخ هذه المرحلة بدقّة ويبدّد كلّ الالتباسات الّتي شابتها على طريق الشّفاء الكامل من جراحها وخدمةً للوحدة المشتهاة.

ولقد خطونا خُطُواتٍ كبيرةً في عملنا الرّعائيّ المشترك، من خلال الاتّفاق بيننا وبين السّريان الأرثوذكس، وكنّا قريبين من تحقيق مشروع وَحدويّ بيننا وبين الرّوم الكاثوليك، ولكن الاختلاف في فهم الشّراكة والمجمعيّة والعلاقة مع الكنائس خارج المدى الأنطاكيّ حال دون تحقيق هذا المشروع. هل علينا أن نستسلم وأن نترك حُلم الوحدة الأنطاكيّة؟ أوليس الأجدى بنا أن نتحلّى بشجاعة الإصرار على الاستمرار في العمل من أجل الاقتراب بأكبر قَدْر ممكن من هذه الوَحدة؟ أوليس شعورُ أبنائنا أكثرَ من قبل بوَحدة المصير والوَحدة في الشّهادة والقداسة حافزًا من أجل السّعي لتحقيق الوَحدة الّتي نصبو إليها جميعنا والّتي أوصانا بها الرّبّ يسوع له المجد؟  

ولا يغيب عنّي، وأنا أخاطبكم عن أنطاكية، مشهدُ عيد الفصح الّذي أقمته على ركام كاتدرائيّتها التّاريخيّة الّتي دمّرها الزّلزال مؤخّرًا، وألحق آلامًا لا توصف بأبنائها. وهنا أغتنمها فرصة لأرسل سلامي ومحبّتي وبركتي إلى أبنائنا في هذه المدينة وفي لواء الإسكندرون ومرسين، ومعهم ومن خلالهم أؤكّد للعالم بأنّنا أبناءُ الرّجاء، وبأنّنا سنعيد بناء ما تهدّم، وسنبقى شهودًا في هذه الأرض الّتي وطِئَتها أقدام الرّسل، وتقدّست بدم الشّهداء، ومن بينهم الشّهيدان في الكهنة نقولا خشة وابنه حبيب، اللّذان استشهدا في القرن الماضي واللّذان سيدرس المجمع المقدّس الّذي ينعقد في الأيّام القادمة إعلان قداستهما، واللّذان نطلب منذ الآن شفاعتهما من أجلنا جميعًا ومن أجل هذا الكرسيّ الّذي حفِظته قداسة أبنائه عبر الأجيال.

ومن هذه التّلّة البلمنديّة المباركة، الّتي تشكّل مكانًا من أمكنة حضور كنيستنا الأرثوذكسيّة النّابض في لبنان الحبيب، أتوجّه إلى إخوتنا في المواطنة جميعًا، من أجل أن نعمل معًا لصياغةِ رؤيةٍ تحترم التّعدّدَ الّذي يزخَر به هذا البلد وتمايزَ الجماعات فيه، ولصيانةِ وَحدةِ لبنان الّتي تُبرِز ما عندنا من قيم، ولا تحوّل الطّائفيّة إلى أداة للفساد والإفساد ولتعطيل الحُكم وإيقاف عجلة الدّولة، وقهر المواطنين. ومن هنا أخاطب ضمائر المسؤولين جميعهم في هذا البلد وأخاطب بشكل خاصّ النّوّاب داعيًا إلى انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة اللّبنانيّة يسهر على انتظام عمل المؤسّسات، وأسألهم أن تتشابك أياديهم جميعًا وتتعاضد ليعيدوا إلى لبنان رونقه وانتظامَ عمل مؤسّساته، وإلى الشّعب اللّبنانيّ جنى عمره وإيمانَه بوطن أحبّه وما زال. أسأل الرّحمة الإلهيّة لنفوس الّذين قضوا في انفجار مرفأ بيروت مشدّدًا على أن تأخذ العدالة المصلوبة على قارعة المصالح والحسابات سبيلها وطريقها.

وإلى العالم المتحضّر، وإلى أصحاب الضّمير الحيّ أينما وجودوا في العالم أسأل: لماذا تجويع الشّعب السّوريّ؟ ما ذنب هذا الشّعب لكي يُعاقَب بقُوْته ودوائه؟ هل من الإنسانيّة بشيء أن يحرم إنسانٌ من الكهرباء والماء والتّدفئة والدّواء؟ هل من الإنسانيّة بشيء أن يقف الآباء عاجزين عن إطعام أبنائهم وتعيش الأمّهات بقلق دائم من أجل تأمين لقمة الخبز؟ وهل أضحت السّياسةُ مجرمةً لدرجة صارت فيه تتفرّج على موت النّاس جوعًا وقهرًا ولا تحرّك ساكنًا؟ ألم يحن الأوان بعدُ لفكّ الحصار عن الشّعب السّوريّ ورفع العقوبات عنه؟

وكيف لي ألّ أعبّر عن الألم الّذي يعتصر قلوبنا بشأن قضيّة مطراني حلب يوحنّا ابراهيم وبولس يازجي المخطوفين منذ نيسان 2013. إنّ هذا الجرح النّازف في جسد الكنيسة الأنطاكيّة، لن يندمل قبل معرفة مصيرهما، وسيبقى خطفهما في تاريخنا صورة موجعة لما يعانيه إنسان هذا المشرق من قهر.

ومن هنا من جوار الأرز الخالد لا بدّ لنا أن نقول كلمة حقٍّ فيما يجري في فلسطين المحتلّة؛ فلسطين المصلوبة على قارعة مصالح الأمم والنّازفة مع النّاصريّ على جلجلة جبروت الطّغيان. نحن إلى جانب الحقّ الفلسطينيّ في أرضه وفي إقامة دولته الفعليّة. نحن إلى جانب ذاك الشّعب المشرّد الّذي يقاسي المرّ والأمرّ حصارًا وسجنًا وقتلاً وتهجيرًا. إنّ السّلام لا يأتي على جثث الأطفال والقتلى ولا يُستورد على دماء الأبرياء. ما يحدث في فلسطين هو نتيجة امتهان كرامة الإنسان ونتيجة الاستهتار بالشّرعيّة الدّوليّة بكلّ قراراتها ونتيجة سياسة التّمييز العنصريّ والإمعان في فرض منطق الاحتلال. ومن هنا دعوتنا إلى الإيقاف الفوريّ للحرب على غزّة الّتي تدفع ثمن الحصار الخانق من دم أبنائها. ومن هنا دعوتنا أيضًا أن نتلمّس في القدس، مسلمين ومسيحيّين، معراجًا إلى مراحم أبي الأنوار، الرّبّ القدّوس الّذي نسأل عدالته الإلهيّة ورحمته وسلامَهُ الّذي يفوق سلام البشر والّذي لا يُصنعُ بالدّمّ والنّار.  

يا أحبّة،  

لقد قسا علينا التّاريخ في هذه المنطقة، وما زال يقسو، ولكنّنا مخلصون لهذه الأرض، لأنّها جُبلت بتراب آبائنا وبدماء قدّيسينا. ونحن على عهد المحبّة لكلّ سكّان هذا المدى الّذي كنّا، وما زلنا، شركاءَ معهم في الحياة والموت واستُهدِفنا مثلَهم من الخارج. نحن أبناءُ هذه الأرض، ولا نسعى لحماياتٍ أجنبيّة فيها، بل نسعى لترجمة تعاليم الإنجيل في هذه الأرض، ولنقل لُطف المسيح وسلامه أينما حللنا. نحن هنا لنبني هذه البلاد على قيم المحبّة والأخلاق الكريمة مع كلّ الخيّرين وأهل الإخلاص. نحن كُتلةُ محبّة ولسنا كُتلةً طائفيّة. نحن لا نصبو إلّا لأن تكون الأرض سماءً وأن يكون التّاريخ تاريخ لطف الله وانعطافه ومحبّته للبشر وليس تاريخ الخطيئة.

ختامًا، ثلاثمئة عامٍ مرَّت، أحبّتي، على حَدَث الانشقاق المؤسف عام 1724م، والّذي أدّى إلى شَرخٍ في كنيستنا الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، نتجت عنه تداعياتٌ اجتماعيّةٌ واقتصاديّةٌ وسياسيّةٌ مؤسفةٌ وحزينة، انعكست سلبًا على رعايانا. رجاؤنا أن يكون هذا المؤتمر مدماكًا يضاف على المداميك الّتي وضعناها في سبيل استعادة الوَحدة والوئام بين كنيستنا وكنيسة الرّوم الكاثوليك، وأن يدفع أيضًا إلى تعزيز الرّوابط الأخويّة بين البطريركيّات الخمسة (الّتي تحمل اسم أنطاكية)، ويُشعل روح القُربى فيما بينها لتكونَ شهادتُنا واحدةً لسيد المجد.

ألا بارككم الله،

وبارك هذا المؤتمر، لما فيه مجد السّيّد الرّبّ وخير الكنيسة ووحدتها، وخير البلاد والعباد!".

وفي ختام الافتتاح، وجّه الإعلاميّ إيلي أحوش دعوته إلى الجميع لمتابعة أعمال المؤتمر الّذي ستستمرّ أيّام الثّلاثاء والأربعاء 17 و18 تشرين الأوّل في قاعة البطريرك إغناطيوس الرّابع في معهد القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ اللّاهوتيّ والّتي ستتوزّع محاوره إلى أربعة: المحور الأوّل: السّياق التّاريخيّ والسّياسيّ، المحور الثّاني: النّشاط الفكريّ والثّقافة، المحور الثّالث: العلاقات مع سائر الكنائس والشّعوب الأرثوذكسيّة، المحور الرّابع: الحياة الكنسيّة، المحور الرّابع: الحياة الكنسيّة.