مصر
27 كانون الأول 2023, 08:50

إسحق: لنطلب من الله أن يجرّدنا من أسلحتنا وأن يجعلنا قادرين على تركها ومستعدّين للاستسلام لمحبّته

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس بطريرك الإسكندريّة للأقباط الكاثوليك ورئيس مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك بمصر إبراهيم إسحق قدّاس عيد الميلاد المجيد في كاتدرائيّة السّيّدة العذراء- مدينة نصر، بمشاركة لفيف من مطارنة السّينودس البطريركيّ المقدّس ورعاة الكاتدرائيّة ورئيس وكهنة الإكليريكيّة.

وكان إسحق قد وجّه في ليل العيد رسالة الميلاد جاء فيها بحسب "المتحدّث الرّسميّ للكنيسة الكاثوليكيّة بمصر":

"بنعمة الله، بطريرك الإسكندريّة وسائر الكرازة المرقسيّة للأقباط الكاثوليك، إلى إخوتنا المطارنة والأساقفة، وإلى أبنائنا الأعزّاء القمامصة والقسوس الرّهبان والرّاهبات المكرّسين والمكرّسات والشّمامسة، وجميع أبناء الكنيسة القبطيّة الكاثوليكيّة في مصر وبلاد المهجر.

النّعمة والسّلام في ربّنا يسوع المسيح، مولود بيت لحم.

"ستجدون طفلًا ملفوفًا مضجعًا في مذود." لو 2: 12.

مقدّمة:

نحتفل اليوم بعيد الميلاد المجيد، ميلاد ربّنا يسوع المسيح، كلمة الله الّذي تجسّد وصار بشرًا وعاش بيننا. أتينا في هذا المساء المبارك لنجدّد إيماننا بالمحبّة ونرفع صلواتنا من أجل وقف الحرب والدّمار وتخفيف آلام ضحاياها ونشر الأمل في بناء السّلام.

عندما نتأمّل مشهد عيد الميلاد، نحن مدعوّون للانطلاق في الرّحلة الرّوحيّة، منجذبين إلى تواضع ذاك الّذي صار إنسانًا للقاء كلّ إنسان. ونكتشف أنّه يحبّنا لدرجة أنّه يتّحد بنا، حتّى نتمكّن نحن أيضًا من الاتّحاد به.

أوّلاً: الغنيّ الّذي افتقر

"وُلد لكم اليوم مخلّص في مدينة داود وهو المسيح الرّبّ، وإليكم هذه العلامة:  

ستجدون طفلًا ملفوفًا مضجعًا في مذود." (لو 2: 11-12)

علامة حضور المخلّص هي علامة بسيطة جدًّا "طفل في مذود" يأتينا أعزل دون سلاح، يأتي إلينا بكلّ تواضع ووداعة. الله يفاجئنا بحضوره الرّائع والمحبّ في وقت لا ننتظره فيه، وفي وجه لا نتوقّعه ولا يمكن تخيّله، وفي مكان لا نجرؤ على دخوله. وُلد يسوع وسط اللّيل طفلاً في مذود وحتّى اليوم وكلّ يوم سيبقى عمّانوئيل أيّ الله معنا. ووداعة المسيح هذه ليست ضعفًا ولا سلبيّة ولكنّها تجرّد حرّ.

وفي عيد الميلاد يدعونا الرّبّ أن نتمثّل به. وأسلوبه هو لا يُعلن عن ذاته بوسائل القوّة البشريّة ولا غنى العالم وإنّما بالحضور والتّخلّي. فإنّ مجد الله وعظمته يتجلّى في تنازله وتخلّيه. هذا هو أسلوب يسوع المسيح الّذي به خلّص العالم، وهكذا يواصل الله خلاص العالم. فيسوع المسيح يتخلّى فيتجلّى في الأسرار، في الكلمة المقدّسة، في شركة المؤمنين ليأخذ ضعفاتنا وخطايانا مانحًا إيّانا حبّ الله ورحمته اللّامتناهية.

لذا فإنّ فقر المسيح هو أعظم من كلّ غنى عالميّ. ولكنّ غنى الله هذا لا يمكن أبدًا أن يمرّ من خلال أشخاص مملوئين من ذواتهم، متكبّرين، وإنّما دومًا وفقط من خلال أشخاص عرفوا كيف يتجرّدون ويتخلّون بحرّيّة على المستوى الشّخصيّ والجماعيّ، يحرّكهم روح المسيح.

ونحن على مثال معلّمنا، مدعّوين أن نقتدي بمن خلّصنا آتيًا إلينا وشاركنا حياتنا "أخذ الّذي لنا وأعطانا الّذي له". أخذ طبيعتنا البشريّة ليرفعها ويشركنا في حياته الإلهيّة. يدعونا المسيح إلى مشاركته  

والتمثّل به في فقره المُغْني، أن نشاركه روح البنوّة ونـصیر به ومعه أولاد الله.

ثانيًا: الفقير الّذي يُغْني:

يقول بولس الرّسول مخاطبًا أهل كورنثوس:

"أنتم تعلمون جود ربّنا يسوع المسيح، فقد افتقر لأجلكم

وهو الغنيّ لتغتنوا بفقره." (2 كور 8: 9)

الله الغنى، افتقر من أجلنا لكي بفقره يغنينا. اقترب من خليقته، ويدعونا أن نكون مشابهين له. ما سبب هذا التّخلّي؟

هو الحبّ الإلهيّ الّذي يرغب في التّقرّب ولا يتردّد في أن يعطي ذاته ويبذلها من أجل أحبّائه. والـمحبّة تقوم في الحضور ومشاركة المحبوب. فالحبّ الحقيقيّ یھدم الأســوار والحواجز ویلغي المسافات ویبني الجسور.

والھدف من ھذا التّخلّي لـیس الفقر في حدّ ذاته. وإنّما كما یقول بولس الرّسول: "لكي تغتنوا أنتم بفقره". لیس الأمر تلاعبًا بالكلمات، ولكنّه منطق الله المحبّة، منطق العطاء والبذل.

ما ھو ھذا الفقر الّذي یُغني؟ ھو حبّه لنا وقربه منّا. تمّ هذا كلّه في تجسّد كلمة الله. فالله قريب من البسطاء والصّغار والضّعاف لأنّهم قادرون أن يروه بعيون قلوبهم فيملأهم فرحًا ورجاء.

إنّ بساطة المسيح ووداعته ليست ضعفًا ولا سلبيّة، ولا يقوم غناه في استخدام الأسلحة البشريّة. فقد قال المسيح لبطرس الرّسول أن يعيد السّيف إلى غمده. كم من مرّة نأخذ نحن هذا السّيف بأيدينا! ربّما ليس بالمعنى المادّيّ للكلمة، فلدينا العديد من الأسلحة الّتي نستخدمها للدّفاع ضدّ الآخرين: الثّروة، اللّغة، السّلطة، أفكارنا، مشاعرنا، وربّما أحيانًا صمتنا السّلبيّ.

دعونا نطلب من الله نعمة في هذا العيد أن يجرّدنا من أسلحتنا وأن يجعلنا قادرين على تركها ومستعدّين للاستسلام لمحبّته. دعونا نصغي ونتأمّل فنغيّر ونجدّد مواقفنا.

خاتمة:

في الختام نرفع صلاتنا من أجل وقف الحرب والدّمار والآلام في كلّ مكان. ونوجّه النّداء إلى كلّ من يحمل أمانة المسؤوليّة في العالم إلى التّحرّك بعزم لإرساء أسس السّلام والعدالة وحماية حياة النّاس وحفظ كرامتهم.

نوجّه الشّكر إلى كلّ من مدّ يده للتّخفيف عن معاناة كلّ المهجّرين واللّاجئين. وإلى كلّ من ساهم في نشر وتعزيز قيم التّسامح وقبول الآخر والاحترام المتبادل والتّلاقي والتّضامن في إطار من الوحدة والتّنوّع لبناء أسس متينة لمجتمع مدنيّ يشرّف بلدنا ويخدم مواطنيه. تتحوّل أمانة المسؤوليّة إلى رسالة تـعبّر عن مشيئة الله لنا، وعلینا تفعیلھا بفرح لتتحوّل إلى منبع خیر وسلام وازدهارها.

ختامًا:

نرفع صلاتنا متّحدين مع قداسة البابا فرنسيس وأصحاب الغبطة بطاركة الشّرق الكاثوليك. نهنّئ كلّ الّذين يحتفلون بعيد الميلاد من اليوم وكلّ الأيام المقبلة متمنّيين أن يغمر فرح المسيح قلب كلّ إنسان.

نصلّي من أجل وطننا الغالي مصر، ومن أجل سيادة رئيس الجمهوريّة عبد الفتّاح السّيسي وكلّ المعاونين له في خدمة الوطن، ونقدّم لسيادته التّهاني باختيار الشّعب له لخدمة جديدة من أجل مواصلة العمل لخير بلادنا العزيزة وازدهارها.

يا طفل بيت لحم، تعال إلى قلوبنا اليوم، أعنّا مثل الرّعاة الفقراء والبسطاء، أن نكتشف حضورك ونسمع صوتك، ونستجيب لندائك بشجاعة وسرعة. آمين. كلّ عام وأنتم بخير."