إبراهيم ترأّس خميس الأسرار ورتبة الغسل في سيّدة النّجاة ودعا الكهنة إلى التّواضع
وخلال تلاوة الإنجيل المقدّس قام المطران ابراهيم بغسل أرجل الكهنة وكانت له عظة توجه فيها بالتّهنئة لكلّ الكهنة في العالم وفي الأبرشيّة لأنّ المسيح في هذا اليوم رسم سرّ الكهنوت، ودعا الجميع إلى التّواضع وخدمة الآخرين لعلّنا نصل إلى قيامة لبنان الحقيقيّة.
وفي رسالته إلى الكهنة، قال ابراهيم:
"كلّما نعيّد في مثل هذا اليوم عيد جميع الكهنة في العالم، يغمر قلبي فرح كبير، لما للكهنة من مكانة في فكري وفي وجداني. وإذا كان المسيح قبيل موته وقيامته وعودته إلى الآب صلّى من أجل رسله ليكونوا واحدًا كما هو والآب واحد، كذلك نصلّي نحن اليوم لكي يتجدّد كهنة الكنيسة ويتفانوا في الخدمة الكريمة الّتي انتدبوا لها.
دور الكاهن: إنّ تجدّد الكهنة يجدّد الكنيسة أيّ جماعة المؤمنين الّتي أُرسلوا إليها، وذلك لما لهم من دور قياديّ في عيش الشّهادة للمسيح ودعوة النّاس إلى عيش هذه الشّهادة. والكاهن لا يشهد لإيمانه بالكلمة فقط، بل بالعمل والحقّ. فالكلمات تغزونا من كلّ الجهات وموجة المعلوماتيّة الحاضرة لم تعد تقتصر على ضرب شواطىء العقول، بل تعدّتها إلى قلب مدينة الفكر البشريّ وكيانه. وهذه الرّيح العاتية من المعلوماتيّة، الّتي تلفّنا من كلّ جهة، وإن بدت تؤثّر بعض الشّيء على قوّة الكلمة، إلّا أنّها لم تنجح في التّخفيف من عظمة وقوّة شهادة الحياة الّتي طبعت وجه الكنيسة المعاصر.
إنجيل الحياة: إنّ خير مثال على ما أقول هو شهادة حياة الأمّ تريزيا دو كلكوتا الّتي تحدّثت عنها للملء أعمالها فانتشر في الكون عطر قداستها. الإنجيل الّذي يريد أن يقرأه عالم اليوم هو إنجيل الحياة الّذي تحوّلت كلماته أفعالاً وصفحاته فصولاً من بطولات عيش تعاليمه ومشوراته. فكيف يُهدي الكاهن هذا الإنجيل إلى من أُوكلت خدمة نفوسهم إليه إن لم يترجمه في حياته اليوميّة؟ وإتمام هذه التّرجمة الحياتيّة يستحيل على من توقّف عند حدود الكلمة، حتّى ولو لم يعجز عن فهمها، لأنّ الكلمة تموت عندما تُقال وتحيا عندما تُعاش. أوليس هذا هو الخطر الأساسيّ الّذي يهدّدنا اليوم ككهنة والّذي إذا ما أصابنا حوّلنا إلى ضحايا لا تلتقي فيهم كلماتهم بأفعالهم؟ أما أولئك الّذين دأبوا على الحفاظ على عظمة هبة الله لهم، وكأنّها كنز في آنيّة خزفيّة، فإنّهم التهبوا بمحبّة الله والنّفوس ولم تنتصر عليهم اضطهادات ولا إهانات ولا سوء فهم ولا اتّهامات باطلة لأنّهم عاهدوا الله بأمانة على عيش رسالتهم وإكرام كهنوتهم حتّى الشّهادة. أفما صارت الكلمة لهم حياة؟
التّحدّيات الحاضرة: إذا بدت التّحدّيات الحاضرة أقوى بكثير من أن يتغلّب عليها كهنة اليوم، فإنّ الحقيقة تبقى بأنّ المسيح معلّمنا إبّان حياته بالجسد على هذه الأرض قد واجه أقسى منها وأشرس واستطاع أن يتغلّب عليها عندما وطىء الموت بالموت على الصّليب. هذه هي الحقيقة الّتي منها نستمدّ قوّتنا في صراعنا من أجل الخلاص والّتي قد تبان حماقة لمتّبعي حكمة هذا الدّهر والّتي لنا إنّما هي حقّ وفرح واقتداء. وحده الصّليب قادرٌ أن يرفع من قوّة مناعتنا في وجه كلّ الأمراض الرّوحيّة الّتي تُشركنا في التّجربة البشريّة للألم. فكلّما غرسنا الصّليب في تربة أحزاننا ومحننا فإنّنا نحصد سلامًا وأمانًا من حقل قيامتنا وانتصارنا بسبب شراكتنا مع من حمل عنّا ذنوبنا وخطايانا.
محيطنا: والسّؤال هنا يبقى: هل كلّ ما يحيط بنا سواد وشرّ؟ يظهر أنّنا أحيانًا نظنّ أنّ العالم كلّه كذلك، فنقع في جبّ يأس وانكسار وننسى بأنّ الخوف هو عدوّ الإيمان وبأنّ الشّكّ هو عدوّ الرّجاء. هذا ما يصيبنا عندما نعزل أنفسنا عن الخير والجمال الّذي حولنا فنقع أسرى الاهتمام بغدنا حتّى ننسى من تدبّر شؤون حياتنا منذ ولادتنا وأوصلنا إلى ما نحن عليه. إنّ هذا الخوف من الغد يجعلنا أعداء المجهول الّذي دعانا الله إلى السّير فيه كما دعا ابراهيم منذ القديم. الخوف من المجهول يصوّر لنا هذه المسيرة كأنّها رحلة عبسيّة لا خارطة لها ولا معنى. فكيف نجرؤ على المسير إن لم يكن بقوّة الإيمان والاطمئنان الى الله؟
الدّفاع عن الإنسان: إنّ رحلة الإيمان لا تبدأ بكماله بل بالنّموّ فيه والثّبات عليه حتّى نصل الى اليقين المرتجى في فهم حضور الله في حياتنا وتحسّس يده الحنونة اللّطيفة الخفيّة تلمسنا. العالم حولنا ليس كلّه أسواء ونحن مباركون لأنّنا نعيش في زمن تطفح فيه النّعم بالرّغم من هفواته وخطاياه ولأنّنا مدعوّون إلى أن نكون شهودًا للمسيح فيه فنقف من دون تردّد مواقف الدّفاع عن الإنسان منذ لحظة تكوّنه وحتّى آخر ثانية من حياته. إنّه لشرف لنا كبير أنّ الله دعانا لكي نكون في كنيسته شركاء له في الدّفاع عن خلقه، ومن أغنى على هذه الأرض ممّن كان شريكه الله؟
التّعاون مع العلمانيّين: إنّ شراكة الكاهن مع الله في عمل الخلاص هي جوهر الكهنوت الأسمى من أجل خدمة النّفوس. وهذه الخدمة لا يتفرّد بها الكاهن، بالرّغم من كونها في صلب اختصاصاته، بل يتعاون عليها مع باقي المكرّسين ومع العلمانيّين الّذين حباهم الله مواهب متنوّعة تغني الكاهن وتكمل ما نقص فيه. وعلى الكاهن أن يصغي إلى نصحهم ويحترم آراءهم ويثمّن رغباتهم الصّادقة في العمل سويّة على بناء الملكوت وإتمام إرادة الله فيهم. على الكاهن والعلمانيّ أن يصلّيا من أجل بعضهما البعض لأنّ الصّلاة تبني المحبّة والتّعاون والشّعور المتبادل بالمسؤوليّات المشتركة. إنّ أكبر البلايا الّتي قد تصيب رعيّة أو كنيسة هو الشّعور المتنامي بالجفاء والعداء بين الكهنة والعلمانيّين. في حين أنّ أعظم العطايا هي أن يشبك الكهنة والعلمانيّون الأيدي لمواجهة المخاطر المشتركة والّتي لا تصيب منهم أبدًا فريقًا دون آخر.
مصير واحد: الكهنة والعلمانيّون محكومون بذات المصير وعدوّهم واحد كما أنّ خلاصهم واحد. والرّعيّة الّتي لا تحبّ كاهنها قد تعرّضه لمخاطر روحيّة وتعيق مسيرة حياته الكهنوتيّة وتسلب منه فرح الشّهادة للمسيح. والكاهن الّذي لا يحبّ رعيّته والنّفوس الّتي تؤلّفها فإنّه يعيش عكس دعوته ويناقض عهوده لله ويخالف وصيّة المحبّة ويستخفّ بمشورات الإنجيل وبالتّالي يبشّر بذاته، مطفئًا وهج الرّوح الّذي وُهب له، بدلاً من أن يبشّر بالمسيح وبرسالته الخلاصيّة. فإذا ما نقصت يومًا محبّة الكاهن لرعيّته عليه أن يبادر فورًا ودون أيّ تأخير إلى معالجة ضعفه ويتذكّر أنّ كلّ نفس تهلك قد يطلب الله نفسه بدلاً منها. وماذا ينفع الكاهن لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟
صرت كلّاً للكلّ: إنّ نجاح الكاهن في رسالته يتطلّب منه انفتاحًا على من أوكِلَت إليه عنايتهم وتعاونًا معهم، كما يتطلّب منه انضباطًا سلوكيًّا وتهذيبًا لشخصيّته وتشذيبًا لكلّ ما يعيق هذا النّجاح؛ وإلّا، فهو معرَّض لأن ينقاد لطبيعته البشريّة الّتي هي ميّالة إلى الرّاحة والرّفاهيّة، أو مع يمكننا أن نسمّيه "دائرة الرّاحة". و"دائرة الرّاحة" هذه تختلف من كاهن إلى آخر، كأن يُفضِّل فئة على فئة أكانت عمريَّة أو حزبيّة أو اجتماعيّة أو مناطقيّة... ويترك أخرى؛ وفي هذا المجال، قد يلعب أبناء الرّعيّة، أو بعض منهم، لاعتبارات مختلفة، دورًا سيِّئًا، فيساهمون في فشل الكاهن، وبالتّالي في انقسام الرّعيّة و ضياعها؛ أو أن يقوم بالحدّ الأدنى من عمله الرّعويّ والرّسوليّ، ليركن إلى حياته الشّخصيّة، وكأنّما يترك الرّعيّة من غير راع. وفي الرّعايا الكبيرة، حيث يخدم عدّة كهنة، وحيث الحاجة ماسّة إلى التّعاون والتّنسيق فيما بينهم، وإلى ما ذكرت آنفًا من انضباط في السّلوك ومن تهذيب للشّخصيّة وتشذيب لها، قد يظهر الخلل بسرعة إذا لم ينتبه الكهنة إلى هذه الأمور، فيدخل الحسد فيما بينهم وكذلك الانقسامات؛ وهنا قد يلعب أيضًا بعض أبناء الرّعيّة، وبكلّ أسف، دورًا سلبيًّا، لمآرب شخصيّة؛ ولو كانوا حقًّا مؤمنين صالحين، لأمكنهم، بالعكس، أن يلعبوا دورًا إيجابيًّا. وفي هذا الإطار أذكر بكثير من الأسى ما شاهدته بأُمّ العين في حضوري لأحد الاحتفالات الرّعويّة، حينما كان يقدِّم عرّيف الاحتفال كهنة الرّعيّة كيف كان التّصفيق لكلّ واحد منهم يأتي من جهة دون سواها من نواحي القاعة المترامية الأطراف.
مثل السّيِّد المسيح ونعمته هما اللّذان يساعداننا على تخطّي الذّات وعدم الرّكون إلى "دائرة الرّاحة" وإلى الانغلاق، وعلى الانفتاح والتّعاون، وعلى تهذيب الشّخصيّة وتشذيبها. لم يكن للمسيح "دائرة راحة". راحته كانت، مذ دخل مسرح التّاريخ، في أن يُتمَّ مشيئة أبيه السّماويّ الّذي أرسله، أن يكون "كلّاً للكلّ": للخاطىء وللصالح، للغنيّ وللفقير، للعبد وللحرّ، لليهوديّ وللوثنيّ، للرّجل وللمرأة، للكبار وللصّغار، لمعلّمي الشّريعة ولمخالفيها، لمحبّيه ولصالبيه، لمواطنيه وللغرباء. لقد شمل الجميع بشعاعات محبّته الإلهيّة.
ألكاهن خادم: عندما يتّبع الكاهن مثل المسيح الخادم يكسر جدران "دائرة راحته" منطلقًا نحو من يحتاجه مُدركًا أنّ مبدأ الخدمة هو ما يميّز الكاهن عن طالبي الأمجاد. فالمسيح القائد خدم النّاس لأنّ به الله أراد أن يخلّصنا. قبله كان الانسان عبدًا لله وبه صار الله يسألنا:"ماذا تريدني أن أفعل لك؟" (متّى 20/32). هل تريد بصرك؟ أم تريد أن تمشي؟ هل تريد غفران الخطايا؟ أم تريدني أن أكثّر لك خبزك؟ هل تريدين أن أقيم ابنك من بين الأموات؟ أم تريدني أن أطهّرك من برصك؟ وفوق كلّ شيء، هل تريدني أن أموت من أجلك؟؟؟ كلّ هذا صار لنا لأنّه أحبّنا فخدمنا. والكاهن على مثال معلّمه الإلهيّ مدعوّ لأن يسأل: أتريدني أن أصلّي لك؟ أم تريدني أن أستمع شكواك؟ أتريدني أن أزورك في بيتك؟ أم تريدني أن أعزّي انكسارك؟ أتريدني أن أنقل لك سلام ومحبّة المسيح؟ أم تريدني أن أحمل المناولة والأسرار إلى مرضاك؟ أتريدني أن أتألّم معك وأن أفرح معك وأن أبشرّك البشرى الحسنة؟ أتريدني أن أموت من أجلك؟ كلّ هذا ممكن إذا أحبّ الكاهن النّفوس فخدمها من أجل المسيح. والخدمة لا تقاس بعظمتها بل بمقدار المحبّة الّتي وُضعت فيها. أعرف أنّ كاهنًا زار يومًا مريضة مشرفة على الموت وبعد أن ناولها ومشحها سألها إذا كانت تُريد خدمة أخرى فأجابته بأنّها تُريد أن تسمع بعض التّرانيم الدّينيّة الّتي تحبّ وأنّه يستحيل عليها ذلك في المستشفى، فأسرع الكاهن وأحضر بعض التّسجيلات واشترى لها آلة تسجيل صغيرة من ماله الخاصّ وقدّمها لها. لقد كان فرحها عظيمًا. وبعد أيّام قليلة ماتت تلك المرأة لكن فرحها لم يمت وقد ورثه ذلك الكاهن الشّابّ الّذي خدمها لأنّه استطاع أوّلاً أن يحبّها.
ألكاهن محبّة: إذا كان الله محبّة فإنّ الإنسان أيضًا محبّة لأنّه على صورة الله خُلق. ألله يبقى دومًا محبّة، إنّه المحبّة الخالدة. أمّا الإنسان المستسلم لضعفه بالخطيئة فإنّه صار مزيجًا من محبّة وضغينة، تزيد فيه الواحدة أو تقلّ على قدر قربه من الله أو بعده عنه. فمسيرة المؤمن هي من ظلمة إلى نور ومن كراهيّة إلى محبّة. ألكاهن هو قائد لشعبه في هذه المسيرة الطّويلة وهو في طليعة من اختاروا أن يرمّموا صورة المحبّة فيهم بقوّة الإرادة وفيض النّعمة. فالكاهن الّذي لا يحبّ لا يمكنه أن يزرع الحبّ لأنّ حبّه لذاته يثنيه عن محبّة الآخرين. أمّا الكاهن الّذي يؤمن بقوّة الحبّ فإنّه يبذل كلّ ما بوسعه لعيش وصيّة الحبّ. وهذا البذل نجتهد فيه لمصالحة دافعين متصارعين فينا: دافع حبّ الذّات ودافع حبّ الآخر. فحبّ الذّات يدفعنا نحو ذاتنا لنكون من أجل ذاتنا ونوجد لذاتنا. إنّها نزعة لا محدودة فينا نحو الأنا وحرّيّتها واستقلاليّتها. أمّا حبّ الآخر فهو قوّة عطاء الذّات وبذلها وإشراكها في حياة الآخر وخيره الأسمى. وهذان الدّافعان العميقان فينا يحتاجان إلى قوّة روحيّة قادرة أن تميّز بينهما حتّى لا نقع في فخّ سوء التّمييز الّذي وقع فيه الفرّيسيّ المطمئنّ إلى ذاته في مثل الفرّيسيّ والعشّار. (لوقا 18/11-14) عندما يتصالح هذان الدّافعان فينا ندرك أنّ معرفتنا لذاتنا ولعلاقتها بمحيطها توصلنا إلى الله وأنّ مسيرتنا الإنسانيّة والرّوحيّة قد تقدّمت جدًّا. هذا ما يمكن أن نسمّيه "ألنّموّ الرّوحيّ" أو التّطوّر والازدهار في مسيرة الرّوح نحو مبدعها. وغياب هذا النّموّ عن حياة الكاهن يعني تلقائيًّا غياب الفرح والأمان أيضًا عن حياته وحلول اليأس والإحباط مكانهما. وبدل "نموّ الرّوح" تحلّ "محنة الرّوح" الّتي تسبّب طلاقًا بين الكاهن ونموّه الرّوحيّ وتزيد من أغلال "الأنا" وسجن الذّات. وحدها محبّة الله ومحبّة القريب تستطيع أن تحرّر الكاهن، وكلّ إنسان طبعًا، من ذاته كي يستطيع أن يكرّس ذاته من أجل الآخرين لأنّ المحبّة لا تُثمر إلّا محبّة. وعبثًا نفتّش عن هذه المحبّة خارج ذواتنا لأنّ الذّات الّتي تأسرنا هي نفس تلك الذّات الّتي تحرّرنا، فمحبّة الله مغروسة في أعماقنا لأنّنا على صورته مفطورون والله محبّة."