سوريا
28 كانون الأول 2020, 08:50

أفرام الثّاني: نعلم أنّ الله يدافع عنّا ونحن صامتون

تيلي لوميار/ نورسات
في كاتدرائيّة القدّيس جرجس البطريركيّة في باب توما- دمشق، احتفل بطريرك السّريان الأرثوذكس مار إغناطيوس أفرام الثّاني بقدّاس عيد الميلاد، عاونه فيه النّائب البطريركيّ في أبرشيّة دمشق البطريركيّة تيموثاوس متّى الخوري، والنّائب البطريركيّ لشؤون الشّباب والتّنشئة المسيحيّة أنتيموس جاك يعقوب، ومطران الأرمن الأرثوذكس في دمشق أرماش نلبنديان.

وللمناسبة، ألقى أفرام عظة قال فيها بحسب إعلام البطريركيّة: "‎أيّها الأحبّاء، في بدء إنجيله ينطق القدّيس يوحنّا الرّسول بإيمان الكنيسة الجامعة منذ أوّل يوم للمسيحيّة وحتّى اليوم، وإلى آخر يوم من هذه الحياة، ذلك الإيمان المبنيّ على تجسّد ابن الله الكلمة، الرّبّ يسوع المسيح، والخلاص الّذي عمله من أجل كلّ البشريّة على الصّليب بموته وقيامته وصعوده إلى السّماء.  

‎المسيح هو كلمة الله، هو الله. "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله" (يو 1: 1)، إذ لا يمكن أن يكون بدون كلمة، بدون نطق. هذا هو السّرّ الكبير الّذي يعجز الإنسان عن فهمه إلّا بالرّوح القدس: أنّ الله- جلّ جلاه وتقدّس اسمه- موجود معنا في هذا العالم، يهتمّ بنا. فهو الإله الواحد، لكن بثلاث صفاتٍ أقنوميّة، أيّ بثلاثة أقانيم: الآب والإبن والرّوح القدس. إذًا هو الله واحد. لا يعبد المسيحيّ إلّا إلهًا واحدًا. لذلك، في كلّ يوم ولمرّات عديدة عندما نرسم علامة الصّليب، نقول: "بإسم الآب والإبن والرّوح القدس، الإله الواحد آمين".‎  

نجتمع اليوم لنعيّد عيد ميلاد هذا الإله بعد أكثر من ألفي عام. نحتفل بعيد ظهوره بيننا وقد صار مثلنا وشابهنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة. وكان لا بدّ له أن يتجسّد، أيّ أن يأخذ جسدًا لكي يُصلب على الصّليب ويموت ويقوم. هكذا ركّز آباء الكنيسة وخاصّة مار أفرام السّريانيّ: إنّ المسيح، لو لم يولد من العذراء مريم لما مات على الصّليب. فكيف يموت مَن لم يولد؟ ولذلك، يقارن الآباء بين حضن العذراء مريم وبين القبر الّذي احتوى المسيح. فالمسيح الرّبّ الإله ظهر من بطن العذراء إنسانًا تامًّا، إلهًا تامًّا، بطبيعة واحدة، ودخل القبر ليظهر من جديد إلهًا منتصرًا على الموت والخطيئة والشّيطان. هذا الإله العجيب الّذي لا يُفهَم سرّه إلّا بالرّوح القدس، أيّ يعيش الإنسان معه برابطة قويّة. نعم هو عجيبٌ والحقيقة أنّ "عجيب" هو أحد الأسماء الّتي أُطلقت عليه في نبوّة إشعياء الّذي نطق بها أكثر من سبعة قرون قبل ميلاده، وذكّرنا بها الإنجيل المقدّس بأنّه يدعى "عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًّا رئيس السّلام، لنموّ رئاسته وللسّلام لا نهاية" (إش 9: 6). نعم، هناك أسماء كثيرة أُطلقت على هذا المولود، فهو يشوع (يسوع) أيّ الله المخلّص. هو المسيح، أيّ الّذي مسحه الآب ليخلّصنا. هو الإبن لأنّه ابن الآب وقد وُلد من العذراء وأصبح ابنًا لها بالجسد. هو المشير الحكيم، هو العجيب، الأب الأبديّ، هو رئيس السّلام، وهو عمّانوئيل، أيّ الله معنا. وكلمة عمّانوئيل باللّغة السّريانيّة الّتي كانت لغة هذه البلاد عندما وُلِد السّيّد المسيح وقبلها بقرون، اللّغة السّريانيّة الآراميّة، وكان لا بدّ أن يتحدّث بها أبناء هذه البلاد، فأُطلِق على السّيّد المسيح إسم "عمّانوئيل"، إيل هو الله، وهو إسم الله يسبق المسيحيّة. فبالتّالي "إيل هو معنا"، معنا هو الله. وبالنّسبة إليَّ ولكلّ مسيحيّ بدون شكّ عمّانوئيل يعني الكثير، لأنّ هذا الإسم يعبّر عن حقيقة ما صنعه الله في هذا العالم، أنّه جاء وعاش مع العالم. الإنسان، أيّها الأحبّاء، يشعر بغربة في هذا العالم، يشعر أنّه وحيد وضعيف، ليس مَن يسنده، وذلك بسبب المصائب والتّجارب والضّيقات الّتي يمرّ بها. نعم، هناك أب وأمّ ولكن إلى زمان، وهناك إخوة وأخوات ولكن إلى حدود، ولكن هناك الله الّذي لا يحدّه مكان ولا زمان، هو هذا الإله قد جاء وصار معنا، فأصبح هو عمّانوئيل ونحن أصبحنا شعبًا مباركًا مختارًا له.  

‎ما أطيب وما أجمل هذه الكلمة عمّانوئيل- الله معنا- وهل من تعبير أدقّ وأعمق من هذا التّعبير عن علاقة الله بالبشر. نعم، هو الله، هو المحبّ، بل هو المحبّة. هو الصّادق، هو الرّحوم، هو الحنون، هو المخلّص، هو كلّ هذه الصّفات، ولكن عندما نقول عمّانوئيل، إنّه معنا، معي ومعكَ ومعكِ ومع كلّ إنسان في هذا العالم، ليس فقط مع المسيحيّ لئلّا نتفاخر ونعتبر أنفسنا أفضل من الآخرين. لا، عمّانوئيل هو الله ليس فقط مع المسيحيّ، بل مع كلّ إنسان في هذا العالم. ولكن على الإنسان أن يتقبّل هذا الإله. يجب أن يحتضنه، أن يدعه يولد في قلبه من جديد في كلّ مرّة.  

‎هذه هي رسالة الميلاد إن أردنا أن نحصرها بكلمة واحدة، هي: عمّانوئيل- الله معنا. فهل نشعر بوجود الله معنا، أيّها الأحبّاء؟ أتمنّى وأصلّي أن يشعر كلّ واحد منّا بوجود هذا الإله المحبّ إلى جانبنا، يسندنا في كلّ حين. قد لا يُنجّينا من كلّ التّجارب الّتي نمرّ بها، قد لا يمنع عنّا كلّ الضّيقات والتّجارب، ولكن، بالتّأكيد، هو معنا، يقوّينا لمجابهة هذه التّجارب. وهنا يظهر وجود الله: فالله الّذي خلق هذا العالم، لا يتدخّل بسير هذا العالم، لا يمنع كلّ تجربةٍ وكلّ ضيقةٍ تأتي على أيّ واحد منّا، وإلّا فهو يتدخّل بحرّيّتنا الشّخصيّة الّتي أعطانا إيّاها، ولكنّه يقوم بأمرٍ أعظم من هذا: يكون معنا في كلّ ضيقتنا، فنخرج من هذه الضّيقات ومن هذه التّجارب ونحن منتصرون به، بالّذي أحبّنا. لا تنتظروا، أيّها الأحبّاء، أن يتدخّل الله بكلّ صغيرة وكبيرة، بكلّ شاردة وواردة في حياتنا. أعطانا حرّيّة يحترمها، وعلينا أن نستغلّ ونستخدم هذه الحرّيّة بما يمجّد اسمه القدّوس. ولكن انتظروا وتوقّعوا واختبروا دائمًا وجوده معكم، في كلّ ضيقةٍ وفي كلّ محنة وفي كلّ تجربة.

‎نعم، عمّانوئيل- الله معنا. أتمنّى أن يشعر كلّنا بهذا الأمر. أتمنّى أن يشعر الجميع بهذا الوجود فنحتمل هذه الضّيقات صابرين لأنّ "مَن يصبر إلى المنتهى، فهذا يخلص" هكذا يعلّمنا الرّبّ يسوع في الإنجيل المقدّس.

‎وضيقاتنا ليست قليلة هذه الأيّام، هنا في سورية، في الشّرق الأوسط، لا بل في كلّ العالم. هذه الجائحة كورونا قد هزّت العالم، هزّت عروش الملوك والسّلاطين والولاة والرّؤساء، أظهرت ضعف البشريّة، حتّى أنّها أظهرت عجز الكنائس والأديان في مواجهة هذه الجائحة. ولكنّنا نعلم أنّ الله يدافع عنّا ونحن صامتون. نعم، هذه الجائحة قد أصابت الملايين ومئات الملايين من النّاس، وسقط الكثيرون نتيجةً لها، ولكن علينا أن نصلّي أن تزول عنّا وعن كلّ العالم. هناك النّتائج الكثيرة الّتي نتجت عنها وأهمّها الانهيار الاقتصاديّ في معظم دول العالم، والبطالة الّتي لم تعُد تقاس بأعدادٍ، فأعداد العاطلين عن العمل قد ارتفعت كثيرًا وهذا يعني أنّ عائلات وأفراد يعانون من الفقر والحاجة، ونحن من بين هؤلاء النّاس، نعاني في بلدنا من الفقر والحاجة وانعدام أساليب الحياة. نحن محرومون ليس فقط بسبب كورونا ونتائجها، بل أيضًا بسبب الظّلم الّذي أصابنا من دول وكيانات حيث فرضوا عقوبات ظالمة غير قانونيّة لا مبرّر لها، على أبناء هذا الوطن وعلينا أن نتحمّل. نأمل أنّ الكثير قد ذهب وما بقي إلّا القليل لكي نخرج من هذه المحن والأزمات لنعيش مرّة أخرى بكرامة تليق بالإنسان، تلك الكرامة الّتي أراد الله بتجسّده وموته وقيامته أن يعيدنا إليها، هي كرامة أبناء الله، الّتي يستحقّها كلّ إنسان في هذا العالم.

‎من هنا، من دمشق عاصمة بلدنا الحبيب سورية، وعاصمة آبائنا وأجدادنا منذ آلاف السّنين، فدمشق كانت عاصمة لآبائنا الآراميّين السّريان على الأقلّ ألف سنة قبل الميلاد. وشهدت حضارة عظيمة وصدّرتها لكلّ العالم. ونحن أحفاد أولئك العظام، عندما أقول أحفاد لا أقصد فقط بالسّريان الأرثوذكس، فكلّ سوريّ شريف مخلص هو ابنٌ لهذه الأرض، بغضّ النّظر عن دينه، مُسلمًا كان أم مسيحيًّا، بغضّ النّظر عن ثقافته وعن لغته، يجب أن يشعر بانتماءٍ إلى هذه الأرض المباركة."

وأرسل البطريرك أفرام بركته معايدته وصلوات وبركاته الرّسوليّة إلى أبناء كنيسة المنتشرين في كلّ أنحاء العالم، ولمطارنتها وكهنتها وشمامستها ورهبانها وراهباتها. هذا وعايد أبناء سوريا مسليمن ومسيحيّين، حكومة وقيادة، آملاً في أن تعود سوريا "واحدة موحّدة لكلّ لأبنائها"، وأن "يعود أبناؤها الّذين اضطروا أن يتركوا أو هُجِّروا".

كما حيّا، الشّعب الأرمنيّ "الّذي مرّ بصعوبات كثيرة وخاصّة في الأيّام الأخيرة دفاعًا عن أرضه ووطنه، وقدّم العديد من الشّهداء"، من خلال مطران الأرمن الأرثوذكس أرماش نالبنديان الّذي شارك في القدّاس ممثّلاً كاثوليكوس عموم الأرمن في أتشميزين الكاثوليكوس كيراكين الثّاني.