أفرام الثّاني: ليزرع طفل المغارة بذور السّلام والأمن في سائر أرجاء المعمورة بخاصّة في سوريا الحبيبة
وخلال القدّاس، ألقى أفرام عظة استهلّها بالآية العاشرة من إنجيل لوقا 2: "لَا تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ" وقال بحسب إعلام البطريركيّة:
"إنّه الملاك يطمئن الرّعاة الّذين يحرسون قطيع الأغنام في بيت لحم مبشّرًا إيّاهم بفرح عظيم يكون، ليس لهم فقط بل لكلّ العالم. إنّه يهدّئ من روعهم ويدعوهم إلى السّكينة والاطمئنان وسط مخاوف تمتلك قلوبهم، واضطراب يملأ نفوسهم، وهواجس تسيطر عليهم وهم يتساءلون فيما بينهم عن سرّ هذا المنظر الرّهيب حيث الملائكة يملأون سماء بيت لحم. وما سبب هذا الفرح العظيم الّذي يبشّرهم به الملاك؟ هو ميلاد طفل عجيب من أمّ عذراء لم تعرف رجلًا هو طفل ليس كباقي الأطفال بل هو قديم الأيّام كما يدعوه دانيال النّبيّ (دانيال ٧ :٢٢). هو العجيب المشير، الإله القدير، الأب الأبديّ، ورئيس السّلام كما يسمّيه إشعياء النّبيّ (إشعياء ٩ :٦).
ولكن الفرح الّذي بشّر به الملائكة الرّعاة، لا يرتبط فقط بولادة الطّفل يسوع، كلمة الله المتجسّد، بل يتعدّاه إلى مفاعيل هذا التّجسّد الالهيّ الّذي يدعو إلى عالم جديد فيه يتمجّد الله في العلى وينتشر السّلام على الأرض وتمتلئ قلوب بني البشر بالرّجاء الصّالح. كما أنشدت جوق الملائكة الّذين ظهروا بغتة بعد بشارة الملاك للرّعاة (لوقا ٢ :١٤).
هذه الأنشودة الملائكيّة تحمل بشرى عظيمة بالفرح بميلاد الرّبّ يسوع، هي رسالة تُبدَّد بواسطتها كلّ مخاوفنا وهواجسنا، لأنّها تعلن عن نزول الله ليكون بجانب شعبه لا بل معه فهو (عمّانوئيل– أيّ الله معنا). نحن إذًا نؤمن أنّ الله أخذ جسدًا وحلّ بيننا ليخلّصنا من خطايانا ويعيدنا إلى مجدنا الّذي فقدناه بسبب معصية أبينا آدم. ولا نؤمن بتأليه إنسان كما يظنّ البعض.
أيّها الأحبّاء،
إنّنا نحتفل بعيد الميلاد هذا العام ونحن نشهد ولادة جديدة لبلدنا العزيز سوريا. وكما في كلّ ولادة جديدة هناك مخاض يصحبه الألم ويقترن بالهواجس والمخاوف على مستقبلنا كسوريّين بشكل عامّ وعلى وجودنا المسيحيّ بشكل خاصّ. وبهذا شابهنا الرّعاة الّذين جلسوا في البرّيّة القريبة من بيت لحم، محاطين بظلام دامس، يجتمعون حول نارٍ خافتة تمنحهم القليل من الدّفء في وجه البرد القارس، قلقين وخائفين على القطيع الّذي نرعاه، وقلوبنا تحمل هموم ومخاوف شعبنا وأبنائنا، وما أحوجنا إلى بشارة جديدة من السّماء تطرد الخوف من قلوبنا وتعيد إليها الطّمأنينة. فهل نسمع الملاك ينادينا قائلًا: "لَا تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ" (لوقا 2: 10).
هي بشارة يحتاجها كلّ ساكني هذه المعمورة الّذين يتخبّطون في ظلام الشّكّ والإلحاد، وتتجاذبهم الأفكار الهدّامة من جهة والفقر والجوع والأوبئة والأمراض من جهة أخرى، ناهيك عن الحروب الّتي تدمّر البلاد وتقضي على العباد، والنّاتجة عن طمع الإنسان وجشعه غير المحدود للحصول على المزيد من الثّروات والموارد الطّبيعيّة الّتي تقدر أن تسدّ احتياجات الجميع إذا ما استعملها الإنسان كما أراد الله لنا.
ولكن هذه البشارة تدعو اليوم مجتمعنا المسيحيّ السّوريّ بشكل خاصّ لطرح الخوف خارج قلوبنا، لأنّ عمّانوئيل معنا وفي ما بيننا، حضوره يملأ قلوبنا بفيض سلامه الّذي يفوق كلّ عقل (فيلبّي 4: 7)، وهو صادق بوعده القائل: "وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلْأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ" (متى 28: 20).
نحن إذًا لا نخاف، لأنّ سورية قد تباركت إذ تُذكَر في الإنجيل المقدّس عند سرد واقعة ميلاد الرّبّ يسوع المسيح. وأيضًا على أبواب دمشق، أظهر الله قوّته العظيمة بتحويل شاول، الّذي كان حاقدًا على المسيحيّين ومضطهدًا لهم، ليصبح رسولًا للأمم ومن أشدّ المدافعين عن الإيمان المسيحيّ على أثر اعتماده على بعد أمتار قليلة من هنا في الطّريق المستقيم، في بيت حنانيا.
فلتطمئنّ قلوبكم؛ لأنّ سورية هي مهد المسيح، وفيها باسمه دُعينا نحن، مسيحيّين. ولن تقدر قوى الشّرّ أن تقتلعنا من أرضنا؛ لأنّ المسيح واقف على أسوارها يحمينا، ويدافع عنّا.
إلى جميع شركائنا في الوطن، أقول: ستظلّ سورية رمزًا للحضارة، ومنارةً تضيء دروب الطّامحين للحياة، بمظلّة المحبّة والتّعايش السّلميّ، رغم كلّ التّحدّيات الّتي واجهناها وما زلنا نتصدّى لها، ومحاولات التّشويه لحقيقة المجتمع السّوريّ وشعبه النّبيل. لذا، نمدّ أيدينا إلى جميع الشّرفاء من أبناء هذا الوطن، لنشارك في بناء سورية الجديدة، بكلّ طاقاتنا وإمكانيّاتنا، من أجل مستقبل مشرق وحياة حرّة كريمة لكلّ فرد من أبناء هذا الوطن.
وبمناسبة عيد ميلاد الرّبّ يسوع الّذي يمثّل دعوةً مُلهِمة نحو حياة أفضل، فإنّنا نحثّ جميع أبناء الكنيسة في سورية الّذين يتطلّعون إلى الانخراط في الحياة السّياسيّة والمدنيّة والاجتماعيّة على التّعاون والتّكاتف مع جميع شركائنا في هذا الوطن الغالي، من أجل مستقبل مشرق وحياة كريمة، وكي نستمرّ في أداء دورنا الحيويّ كمسيحيّين في هذه البلاد المباركة، لأنّ المرحلة الجديدة الّتي تمرّ بها سورية اليوم تستدعي منّا جميعًا، كسوريّين، أن نتحلّى بالتّفاؤل، ونتعاون معًا نحو بناء سورية جديدة، ولا يمكن أن يتحقّق هذا إلّا من خلال الحفاظ على حقوق الجميع، وإعلاء قيمة المواطنة والمساواة فوق أيّ اعتبارات أخرى. لذلك، ندعو كلّ أصحاب الخبرات للمشاركة في الحياة السّياسيّة لبلدنا وخاصّة في صياغة الدّستور الجديد الّذي نأمل أن يشكّل ضمانة لحقوق جميع مكوّنات الشّعب السّوريّ بشكل لا يهمّش أو يلغي أو يقلّل من حقوق أي مواطن، بغضّ النّظر عن انتمائه الدّينيّ أو الإثنيّ، خاصّة وأنّ المسيحيّين مكوّنٌ أصيل لهذا البلد، تشهد صفحات الحضارة والتّاريخ على دوره الفعّال منذ فجر المسيحيّة وحتّى يومنا هذا.
ومن هنا، من دمشق عاصمة سورية التّاريخيّة منذ أيّام آبائنا الآراميّين، نتقدّم من جميع الأحبار الأجلّاء أعضاء المجمع المقدّس، وأبناء الكنيسة كافّة في أرجاء العالم، بالتّهاني القلبيّة والأدعية الخيريّة، بمناسبة أعياد الميلاد المجيد ورأس السّنة الجديدة، سائلين الرّبّ الإله أن يحرسهم ويحفظهم بعنايته الفائقة، وطالبين منهم الصّلاة لأجل سورية وشعبها الطّيّب.
أخيرًا، فلنرفع آمالنا وقلوبنا نحو العزّة الإلهيّة، طالبين من طفل المغارة، يسوع المسيح، أن يزرع بذور السّلام والأمن في سائر أرجاء المعمورة، وبشكل خاصّ في سورية الحبيبة. نسأله أن يحفظ شعبها من سائر الآفات والشّرور، وأن يبعد عنها ويلات الاقتتال والحروب، ويعطي بنيها الحكمة ليعبروا بها إلى شاطئ الأمان حيث السّلام والرّخاء لشعبها العزيز. آمين.
كلّ عام وأنتم بخير".