أفرام الثّاني في وداع النّعمة: لم نأت لنبكيك بل جئنا لنغبط السّماء ونهنّئها بضمّها إيّاك إلى جموعها!
تخلّلت الصّلاة كلمة تأبين ألقاها البطريرك أفرام الثّاني أضاء فيها على أمانة المطران الرّاحل في خدمته الكنسيّة، فقال فيه بحسب إعلام البطريركيّة الرّسميّ: "لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ... فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ الاثْنَيْنِ: لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا" (في1: 21، 23).
في رسالته إلى أهل فيلبّي، يعالج رسول الأمم القدّيس بولس مفهوم الحياة والموت الّذي شكّل جدليّة تاريخيّة عمرها عمر الإنسانيّة. وقد اختلفت مدارس الفلسفة في تفسير مفهوم هذين المتناقضين فيما اختلفت المذاهب الدّينية أيضًا في التّعبير عن كنه الحياة والموت. فجاءت كلمات بولس الرّسول لتؤكّد لنا أنّ لا تناقض بين الحياة والموت ولا تضاد بينهما، بل هما حقبتان زمنيّتان تشكّلان تكاملاً في عمر الإنسان، وتصفان مرحلتَيْن مختلفتَيْن من الحياة البشريّة: الأولى أرضيّة مادّيّة والثّانية سماويّة روحيّة. فنرى مار بولس يركّز على أنّ الحياة هي هي على الأرض والسّماء؛ على الأرض نجاهد أن نكون للسّيّد للمسيح من خلال إيماننا المثمر بأعمال البرّ والصّلاح، أيّ المحبّة المضحّية حتّى الموت من أجل من نحبّ. والثّانية هي الوصول إلى مبتغانا من هذه الحياة أو لنقل الحصول على جائزة الفوز وهي اللّقاء مع ربّنا يسوع المسيح الّذي من أجله نجاهد على هذه الفانية متحمّلين صنوف الآلام والعذابات. فيكون الموت لنا ربحًا كبيرًا، من خلاله نصل إلى ما كنّا نسعى من أجله، وهو اللّقاء الأبديّ بمَن أحبّنا حتّى الموت، موت الصّليب. وهناك، نعيش المجد الأبديّ والفرح والسّلام الدائمَيْن، يعبّر عنهما يوحنّا الرّسول في سفر الرّؤيا قائلاً: "وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ" (رؤيا 21: 4).
أيّها الأحبّاء راحلنا الجليل المثلّث الرّحمات مار سلوانس بطرس النّعمة اعتنق هذا الفهم النّيّر للحياة والموت، وتجلّى ذلك في مواقف عدّة له أثناء خدمته أبناء أبرشيّته بشكل خاصّ ومواطني حمص بشكل عامّ. فإكتسب محبّة القريب والبعيد لما لمسوا فيه من محبّةٍ صادقةٍ وخدمةٍ متفانية، خاصّة لأهالي الشّهداء والمخطوفين والمفقودين، من مسلمين ومسيحيّين.
لكنّ أهمّ موقف يُسجَّل له، هو بقاؤه إلى جانب رعيّته وشعب مدينته، مهتديًا بقول الرّاعي الصّالح الرّبّ يسوع المسيح أنّ الرّاعي الصّالح يبذل نفسه عن الخراف، وهو لا يهرب عندما يرى الذّئب مقبلاً، بل يدافع عنها ويبذل نفسه من أجلها، وليس كالأجير الّذي إذا ما رأى الذّئب مقبلاً، يترك القطيع ويلوذ بالفرار مُبدّيًا نفسه على مَن ائتُمِن عليهم. وقد ظهر الكثير من هؤلاء الأجراء أثناء الأزمات الّتي عشناها ونعيشها، فتركوا رعاياهم وذهبوا حيث ظنّوا أنّهم يجدون راحة ومنفعة. أمّا مار سلوانس، فكان من أواخر مَن غادر حمص القديمة بعد أن اطمأنّ على سلامة وأمن سكّانها، وبعد أن أمّن على زنّار القدّيسة مريم العذراء. كيف لا، وهو يستشعر المسؤوليّة الكبيرة تجاه هذا الذّخر الفريد من نوعه الخاصّ بأمّنا العذراء مريم، ويعتبر نفسه حارسًا للزنّار وحاميًا له!!!
لقد تركت الحرب اللّعينة الّتي شنّها العالم على بلدنا سورية أثرًا كبيرًا في حياة كلّ سوريّ أينما كان ومهما كان تموضعه وتوجّهه. وهذه المنطقة من سوريا، حمص القديمة، تشكّل مسرحًا للفصول الأولى من تلك الحرب المدمّرة الّتي كشفت عن موت ضمير العالم، وعدم اكتراث أصحاب النّفوذ والقرار في دولٍ عظمى وأخرى إقليميّة بحياة ملايين النّاس في بلدنا الحبيب. كما أظهرت هذه الحرب ضعف نفوس وبخس ثمن الكثيرين من أبناء وطننا الّذين كنّا نظنّهم أخوة لنا وشركاء، ولكنّهم ظهروا على حقيقتهم أناسًا ليس للمحبّة مكانٌ في قلوبهم، ولا للإخلاص محلٌّ في حياتهم، بل هم مجرّد سلعة يشتريها مَن يزيد الدّفع، فيحقّق من خلالهم مآربه الشّرّيرة تجاه بلدنا. إنّها الخيانة بذاتها؛ هذا الأمر ترك بالغ الأثر في نفس فقيدنا الجليل. أمّا الأمر الثّاني الّذي أثّر في حياة ونفسيّة عزيزنا وحبيبنا مار سلوانس هو تلك الغزوة الهمجيّة الّتي تعرّضت لها صدد مسقط رأسه، تلك البلدة السّريانيّة التّاريخيّة العريقة. عندما هاجمها رعاع وإرهابيّون، واستولوا عليها لمدّة أسبوع كامل، أذاقوا سكّانها صنوف العذابات، فسقط في يوم واحد سبعة وأربعون شهيدًا من الشّيوخ والنّساء والأطفال. لم يستطع المطران سلوانس أن يُبعد عن فكره تلك المأساة الّتي يعيشها أبناء صدد حتّى اليوم.
والأمر الثّالث الّذي ترك الأثر الكبير في حياته وهو أيضًا متعلّق بهذه الحرب، هو استشهاد أخيه المرحوم فهد- أبو عيسى- في كنيسة سيّدة السّلام بانفجار أو تفجير لغم عن بعد أثناء تنظيف الكنيسة بعد تحريرها من رجس الإرهاب والضّلال، بعد أشهر من المعاناة الكبيرة بسبب جروحاته الثّخينة أسلم روحه إلى ربّنا. وهكذا احتمل فقيدنا الكبير آلامه بصبر عجيب وقدرة على الاحتمال فائقة. ولم يدع التّحدّيات الكبيرة الّتي كانت تواجهه تنال من فرحه الدّاخليّ، وهدوء قلبه وسلام روحه. فكانت الابتسامة لا تفارقه، وروح الدّعابة تلازمه دومًا، فتراه يغيّر جوّ الحزن والكآبة إلى فرح وسعادة. كان السّند لكثيرين منّا في زمن ضيقتنا وكربتنا. وهذا لا يعني أبدًا أنّه لم يكن يقاسي الآلام والأحزان، ولكنّه تعلّم كيف يُبقي حزنه لنفسه بروحه المرحة وبديهته السّريعة.
ومع كلّ مؤثّرات هذه الحرب، وربّما بسببها، ظهرت ملامحٌ كثيرة من شخصيّة هذا الرّاحل الكبير. فبالإضافة إلى روح البذل والعطاء ومؤاساة الضّعيف والحزين، أصبح نيافته صوتًا صارخًا لكلّ مَن لا صوت له، فحمل هموم النّاس وآلامهم إلى المسؤولين المحلّيّين والعالميّين. إذ شارك في المؤتمرات والنّدوات والزّيارات الرّسميّة للمسؤولين الكنسيّين والمدنيّين في أماكن كثيرة من العالم، باسطًا هموم النّاس وتَوق السّوريّين إلى العيش بأمن وسلام وكرامة. وهكذا كان يرفع الصّوت وينطق بالحقيقة دون خوف من أحد لأنّه يعلم أنّ قول الحق يحرّر الإنسان من قيوده الكثيرة، كقول السّيّد المسيح: "تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم".
ولعلّ أفصح وصف لنيافته هو ما جاء على لسان الآلاف من المحبّين والمتأثّرين بفراقه من خلال رسائل التّعزية الّتي وردتنا من جهات رسميّة كثيرة، وبشكل خاصّ من خلال عشرات آلاف من الرّسائل النّصّيّة الّتي في وسائل التّواصل الاجتماعيّ. جميعها تترحّم على نفس فقيدنا العزيز وتعدّد مناقبه الحميدة، وتكاد تجمع على فضائل الإيمان والمحبّة والتّواضع الّتي تمسّك بها، وكذلك على صفات الطّيّب والمرح وسرعة البديهة الّتي تحلّى بها.
أيّها الأخ العزيز والحبر النّبيل والصّديق الصّدوق، لم نأتِ لنبكيَك أو نعبّر عن حزننا بانتقالك من بيننا (والله يعلم كم هو كبير هذا الحزن)، بل جئنا لنغبط السّماء ونهنّئها بضمّها إيّاك إلى جموعها.
ما جئنا لنظهر خسارتنا الجمّة بفقداننا مطرانًا جليلاً هنا على الأرض، بل أتينا لنقول للسّماء: إنّكِ اليوم كسبْتِ خادمًا أمينًا في خدمته، عظيمًا في محبّته، كبيرًا في تواضعه، متفانيًا في تضحيته، مبلسمًا لقلوب الحزانى، ساندًا للأرامل والمحتاجين، معزّيًا لذوي الشّهداء والجرحى، مداويًا لجراحات أهالي الأسرى والمخطوفين
مدافعًا عن إيمان الكنيسة أيّما دفاع، متعاونًا مع البطريركيّة في خدمتها، ومع إخوته أصحاب النّيافة المطارنة الأجلّاء، وقريبًا من إخوته رؤساء الطّوائف المسيحيّة ورجال الدّين الإسلاميّ في حمص.
ففيما نعزّي نفسنا وأصحاب النّيافة إخوتنا المطارنة الأجلّاء أعضاء المجمع المقدّس، نقدّم التّعزية كذلك إلى أبناء وبنات أبرشيّة حمص وحماة وطرطوس ولأهالي حمص الأعزّاء بشكل خاصّ ولمسؤوليها الرّوحيّين والمدنيّين والعسكريّين.
إمضِ بسلام واكملْ خدمتك لأبناء أبرشيّتك ومدينتك ووطنك سورية حيث أنت، بالصّلاة عنهم أمام عرش السّيّد المسيح ليهنؤوا بأمن وسلام وعيش كريم."
وفي ختام طقس الجنّاز، ترأّس البطريرك أفرام رتبة الدّفن في مسقط رأس مثلّث الرّحمات، في صدد.