سوريا
26 كانون الأول 2022, 07:30

أفرام الثّاني في عظة الميلاد: هل العظمة تكمن في ممارسة الظّلم والطّغيان...؟

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس بطريرك السّريان الأرثوذكس مار إغناطيوس أفرام الثّاني صباح الأحد القدّاس الإلهي بمناسبة عيد الميلاد المجيد في كاتدرائيّة مار جرجس البطريركيّة في باب توما - دمشق، عاونه فيه النّائب البطريركيّ لأبرشيّة دمشق البطريركيّة مار كيرلس بابي، والنّائب البطريركيّ لشؤون الرّهبان وإدارة إكليريكيّة مار أفرام السّريانيّ اللّاهوتيّة في معرة صيدنايا مار يعقوب باباوي، والسكرتير البطريركيّ مار يوسف بالي، ومطران الأرمن الأرثوذكس في دمشق المطران أرماش نالبنديان، إلى جانب إكليروس البطريركيّة في دمشق وطلّاب دير مار أفرام السّريانيّ وخدمته جوقة مار أفرام السّريانيّ.

وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس، ألقى أفرام الثّاني عظة جاء فيها: 

""فَقَالَ لَهُمُ ٱلْمَلَاكُ: «لَا تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ." (لو 2: 10-11)

إنّها بُشرى أي خبر سار، يزفّه الملاك لمجموعة من الرّعاة السّاهرين اللّيل البارد يحرسون قطيع أغنامهم خارج مدينة بيت لحم، مدينة داوود الملك والنّبيّ، أيّ مدينة المُلك والنّبوءة، وهي من وظائف المسيح المُنتظَر الذي يُعلَن للعالم ملكًا ونبيًّا ومعلّمًا. وبذلك تتحقّق نبوءة ميخا النّبيّ الذي ذكر بالتّحديد اسم المدينة التي يولد فيها المسيح المخلّص بقوله: «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا ، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي ٱلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ ، مُنْذُ أَيَّامِ ٱلْأَزَلِ». (ميخا ٥: ٢)

وقد قَبِل اليهود بهذه البنوءة كإحدى الدّلالات على مجيء المسيح المخلّص. لذلك نراهم يرجعون إليها عندما يَسأل هيرودس رؤساء الكهنة وكتبة الشّعب "أين يولد المسيح؟"

أمّا دافِع هيرودس للسّؤال، فلم يكن رغبةً منه بزيارة الطّفل الإلهي لعبادته، بل هو خوفٌ ممّا سمعه من المجوس الملوك الذين جاؤوا من المشرق، مُهتدين بملاك يظهر لهم كنجم قادهم إلى أرض اليهوديّة يسألون عن الطّفل المولود، ملك اليهود، وقد جاؤوا للسّجود له.

في مثل هذا اليوم، أصبحت بيتُ لحم، تلك القرية المنسيّة، محطَّ أنظار كلّ العالم إذ في أحد كهوفها يولد طفلٌ ليس ككلّ الأطفال. له أمّ بشريّة بدون أب، وله أبٌ إلهي بدون أمّ، لأنّه إله من إله.

له مظهرُ طفلٍ وهو قديم الأيّام الذي تنبّأ عنه دانيال. ليس له بداية، بل مخارجه منذ القديم منذ أيّام الأزل، كقول ميخا النّبيّ. يرضع الحليب كمحتاج وهو الغنيّ الذي يقيت العالم بأسره.

تناغيه أمّه العذراء كرضيعٍ، ويأتي الرّعاة للسّجود له وملوك المشرق يقدّمون له هداياهم ذهبًا ولبانًا ومرّا.

إنّه الطّفل العجيب الذي قال عنه إشعياء النّبيّ: "لِأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْنًا، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلَهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ ٱلسَّلَامِ." (إشعياء 9: 6).

بميلاده، كملَتْ نبوءاتُ العهد القديم التي كان الشّعب ينتظر أن تتحقّق بفارغ الصّبر، ولكنّهم رفضوه ولم يؤمن بذلك المولود الإلهيّ إلّا القلّةُ القليلة، لا بل ذهبوا أبعد من ذلك بأن حرّضوا عليه ملكَهم الرّضيّ هيرودس الذي خاف على مُلكه من هذا الطّفل الرّضيع، سيّما وأنّ المجوس دعوه "ملكَ اليهود"، فأمر بقتل أطفال بيت لحم من ابن سنتين وما دون.

وما زال شعب العهد القديم يرفضون من جاء ليخلّصهم ويقودهم إلى الحياة الأبديّة، مؤثرين البقاء في ظلمات أفكارهم وطرقهم المعوجّة، على الاستنارة بنور العالم الذي جاء ليُنير للجميع، علمًا أنّ إشعياء النّبيّ سبق وأعلمهم بهذا الحدث العظيم بقوله:

"اَلشَّعْبُ ٱلسَّالِكُ فِي ٱلظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. ٱلْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلَالِ ٱلْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ." (إِشَعْيَاءَ 9: 2)

واليوم، أيّها الأحبّاء، وبعد أكثر من ألفي سنة على ذلك الحدث التّاريخيّ العظيم الذي أصبح حدًّا فاصلًا ما بين قبل وبعد فنقول العام الفلاني قبل الميلاد والتّاريخ الفلانيّ بعد الميلاد، أين نحن من ذلك النّور الموعود به وتلك الاستنارة المنتظرة ؟ فالعالم ما زال في ظلمة الجهل والعبوديّة والاستغلال والكراهية.

ما الذي تغيّر في عالمنا سوى ازدياد شقاء الإنسان وآلامه؟ والسّبب يعود بالدّرجة الأولى إلى جشع الإنسان وطمعه وإلى استغلال القويّ للضعيف. فنرى الحروبَ بين الأمم المتجبّرة وغالبًا على أراضي دولٍ ثالثة وهي بأغلبها تنافس على استملاك الطّاقة وموارد الطبيعة.

وهنا في مشرقنا العزيز، وخاصّة في بلدنا الحبيب سورية، وإن كانت العمليات العسكريّة قد انحسرت كثيرًا بفضل دم شهدائنا الأبرار وتضحيات جرحانا من الجيش السّوريّ الباسل والقوى الرّديفة، لكن الحرب لم تنتهِ بل ما زالت مستمرّة بوجهها الاقتصاديّ القبيح، حيث تُستباح كرامة الإنسان من خلال إذلاله في الحصول على ما يحتاجه من طعام ومياه ووقود وغيرها من أبسط ضروريّات الحياة، وذلك بسبب العقوبات غير القانونية والحصار الظّالم المفروض علينا لكسر إرادتنا.

واليوم، تسمع بمشروع قانون جديد يهيّئ له الكونغرس الأميركيّ وكأنّ قانون قيصر لا يكفي. أليس من حقّنا أن نسأل مَن الذي أعطى هذه الدّول التي تسمّى بالعظمى حقّ استعباد وقهر غيرها من الشّعوب؟ هل العظمة تكمن في ممارسة الظّلم والطّغيان، أم في مدّ يد العون للدّول والشّعوب الضّعيفة والمحتاجة؟

نعم، كلّ إنسان على هذه الأرض مسؤول عن أخيه الإنسان. لا نستطيع أن نتشبّه بقايين الذي عندما سُئِل عن أخيه هابيل أجاب: "أحارسٌ أنا لأخي؟" بالفعل، نحن حرّاسُ بعضنا لبعض. ويتوجّب علينا تقديم السّند والعون واحدُنا للآخر، وخاصة في ظلّ ظروف صعبة نعيشها هذه الأيّام. هذه هي روح الميلاد، أيّها الأحبّاء، أن نحبّ بعضنا بعضًا كما أحبّنا الله وأرسل ابنه الربّ يسوع ليخلّصنا من أنانيّتنا وخطايانا، ويمنحنا نعمة أن نُدعى له بنينًا وبناتٍ ووارثين لملكوته السّماويّ.

يطيب لنا باسمكم جميعًا أن نقدّم التهاني القلبيّة لكل أبناء وطننا العزيز سورية، من مسلمين ومسيحيّين، وعلى رأسهم رئيس البلاد الدكتور بشار الأسد، وكافة المسؤولين من مدنيّين وعسكريّين، التهاني القلبيّة بعيد الميلاد المجيد وبقدوم السنة الميلادية الجديدة، مصلّين أن تكون سنةَ خيرٍ وبركة للجميع وسلام ووئام في كلّ العالم.

ومن دمشق عاصمة سورية أرض الآباء والأجداد، نرسل أطيب التّهاني وأحلى الأماني لأبناء وبنات كنيستنا السّريانيّة الأرثوذكسيّة المنتشرين ضمن أبرشيّاتنا في جميع أنحاء العالم، وبمقدّمتهم أصحاب النّيافة الأخوة المطارنة الجزيلي الوقار، والأبناء الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، شملتهم العناية الإلهيّة دائمًا وأبدًا. وكلّ عام وأنتم بخير."