سوريا
27 شباط 2023, 09:45

أفرام الثّاني في بداية الصّوم: للتّأمّل في مسؤوليّتنا الإنسانيّة العظيمة تجاه أخينا الإنسان

تيلي لوميار/ نورسات
مع بدء زمن الصّوم الأربعينيّ، أصدر بطريرك السّريان الأرثوذكس مار إغناطيوس أفرام الثّاني منشورًا بطريركيًّا وجّهه إلى مفريان الهند باسيليوس توماس الأوّل، ولفيف المطارنة وأبنائه الرّوحيّين نوّاب الأبرشيّات والخوارنة والقسوس والرّهبان والرّاهبات والشّمامسة والشّمّاسات، وأفراد الشّعب السرّيانيّ الأرثوذكسيّ، فتوجّه إليهم منطلقًا من الآية "أحارسٌ أنا لأخي؟" (تك 4: 9)، وقال:

"مرّة جديدة يطلّ علينا الصّوم الأربعينيّ المقدّس بما يحمله من نعم وبركات وثمار ترفع الإنسان وترفّعه عن كلّ ما يثقل النّفس والجسد. وقد رتّبت الكنيسة المقدّسة لهذه الفترة قراءات من الكتاب المقدّس، فنقرأ ونتأمّل كيف كان الرّبّ يسوع يجول المدن والقرى يصنع خيرًا (أع 10: 38) ويشفي المرضى ويتحنّن على الضّعفاء والمهمّشين والمتروكين. كما نتأمّل بالأمثال الّتي تركها لنا كالسّامريّ الصّالح الرّحيم الّذي تعطّف على أخيه الإنسان وقدّم له يد العون بكلّ حنوّ ومحبّة (لو 10: 25-37). وفي كلّ هذه الأعمال والتّعاليم رموزٌ وصورٌ عن محبّة الله للإنسان، وهو الطّبيب السّماويّ الّذي جاء ليشفي جنسنا البشريّ من لدغة الحيّة وسمّها، محبًّا إيّانا إلى المنتهى (انظر يو 3: 16)، حتّى الموت، موت الصّليب (في 2: 8)، فخلّصنا وصار لنا أخًا وشبيهًا لنتشبّه نحن به ونصير إخوة له وأبناء لأبيه السّماويّ.

من هنا، ندرك أنّ مسؤوليّة فريدة تجمعنا كأتباع للسّيّد المسيح وتلاميذ له بأن نحبّ بعضنا بعضًا ونعمل معًا من أجل خدمة الإنسان وخاصّة الضّعفاء والمظلومين. ففي كلّ الكتاب المقدّس، بدءًا من العهد القديم مرورًا بتدبير الرّبّ يسوع على الأرض ومن خلال الرّسل القدّيسين وتبشيرهم، نرى كيف أنّ الله يسند الفقراء والأرامل والغرباء، بخلاف ما كان سائدًا في ذهن النّاس من مختلف الثّقافات بعدم الاكتراث لتلك الفئات من المجتمع وتهميش كلّ مَن لا يساهم في تقدّم المدنيّة وتطوريها وتوسّعها. في بعض المجتمعات، كان المريض يُعزَل أو يُترك أو يُشار إليه كوصمة عارٍ لعائلته. وأيضًا كانت المرأة تُعامَل بدونيّة وكأنّها مخلوقٌ آخر لا قيمة له في المجتمع. فكان الإنسان يتسلّط على أخيه الإنسان ويسخّره، جاعلاً له معاييرَ خاصّة لتمييز النّاس بعضها عن بعض وخلق شرخ بين فئة وأخرى على أساس الغنى أو الجاه أو الثّقافة أو ما يعتبره النّاس في حينه قيمة أساسيّة لحضارتهم، ناسين أنّ الله خلق الجميع، على صورته ومثاله، ومنحهم الحرّيّة والكرامة دون تفرقة أو تمييز.

يتردّد حتّى يومنا هذا صدى كلام الله لقايين كما جاء في سفر التّكوين عندما سأله: "أين هابيل أخوك؟" (تك 4: 9)، ليذكّرنا برباط الأخوّة والّذي يحتّم وجود مسؤوليّة على الإنسان تجاه أخيه الإنسان. فيجب ألّا يكون جوابنا كقايين: "أحارسٌ أنا لأخي؟"، بل علينا أن نعيَ أنّنا حرّاسٌ لبعضنا البعض بل مسؤولون تجمعنا المحبّة والأخوّة، فنفكّر ببراءة ونسرع إلى تلبية نداء إخوتنا بتلقائيّة واندفاع وحبّ أخويّ، على مثال ما يعلّمنا القدّيس مار فيلوكسينوس المنبجي في ميمره عن البساطة حيث يقول: "استجاب هابيل كالطّفل الوديع ولم تُعتبر بساطته شرًّا، ولم يفكّر في سبب دعوة أخيه إيّاه إلى السّهل، كما أنّه لم يشعر ببغض قايين إيّاه، لأنّ البساطة لا تختزن مثل هذه الأفكار. غير أنّه تصرّف بوحي من براءته وبالمحبّة الأخويّة، لأنّه اعتاد أن يستجيب فورًا كلّما كان يدعوه."

إنّ ما تمرّ به بلادنا على أثر الزّلزال المدمّر الّذي ضرب أجزاء كبيرة من سورية وتركيا مخلّفًا عشرات الآلاف من الضّحايا الّذين دُفنوا تحت الأنقاض ومئات الآلاف من الجرحى وملايين من المشرّدين والمتضرّرين، يوجب علينا جميعًا أن نُظهِر إيماننا بأعمالنا. فنشعر بمسؤوليّة واحدنا تجاه الآخر، فنقول: "نعم، أنا حارسٌ لأخي، ومسؤولٌ عنه"، بغضّ النّظر عن قُربه أو بُعده، وعن دينه ولونه وعرقه. بذلك، نكون أبناءَ وبناتِ إلهنا الصّالح الّذي لا يمنع نِعَمَه حتّى عن الأشرار والطّالحين. وفعلاً رأينا أثناء جولتنا في المناطق المنكوبة على أثر الزّلزال في تركيا وسورية تدفّقَ الرّحمة وارتفاع روح المسؤوليّة في قلوب الكثيرين الّذين شمّروا عن سواعدهم، أفرادًا وجماعات ودولاً، فقدّموا خدماتهم، كلٌّ بحسب إمكانيّاته، فظهر بأفضل صورة الخيرَ الّذي جعله الله في الإنسان عندما خلقه على صورته ومثاله، وأعاد إلى الكثيرين الطّمأنينة والأمل بمستقبل أفضل للبشريّة إذا ما أحسّ واحدنا بالآخر واعتبر نفسه حارسًا لأخيه.

إذًا، أيّها الأحبّاء، يجب أن نعتني بعضنا ببعض، فنواسي المتألّمين ونعزّي الحزانى ونعضد الضّعفاء ونحبّهم ونعطف عليهم ونخدمهم جميعًا، ليس فقط الّذين هم من عرقنا أو بلدنا أو كنيستنا أو النّاطقين بلغتنا، بل تفيض المحبّة وتبلغ خارج جدران الكنيسة لتصل إلى كلّ موجوع ومريض ومحتاج ومظلوم. بذلك، نطبّق مبادئ إيماننا المسيحيّ وهي "افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم" (يع 1: 27) وإطعام الجائع وسقي العطشان، وإيواء الغريب وإكساء العريان، وزيارة المريض وتفقّد السّجين (انظر مت 25: 35-36). فلنخدم النّاس ونُظهِر لهم الرّحمة، معتنين بهم مهما كلّف الأمر من انسحاق ونكران الذّات وتعب وعطاء. بالتّالي، إنّ خدمة أخينا الإنسان بمحبّة تجعل المسيح حاضرًا بيننا، فيصبح أخونا الإنسان وسيلةً تقرّبنا من الله وامتدادًا أوسع يقرّبنا من معرفة المسيح. وأيضًا نعترف بأنّ القريب هو كلّ إنسان نصادفه في حياتنا وأنّنا نعرف المعنى الحقيقيّ لكلام الله "أريد رحمة لا ذبيحة" (هو 6: 6 ومت 12: 7) فننهج بحسب وصيّة الرّبّ يسوع بأن نصنع رحمة مع الإنسان (أنظر لو 10: 29-37) ونعيد الأمل إلى الإنسانيّة الّتي باتت في أيّامنا مجروحةً بسبب الأنانيّة والاستخدام الخاطئ للحرّيّة.

أيّها الأبناء الرّوحيّون الأعزّاء،

في هذا الصّوم المبارك، ندعوكم لكي تتأمّلوا معنا في مسؤوليّتنا الإنسانيّة العظيمة تجاه أخينا الإنسان، النّابعة من إيماننا المسيحيّ الّذي يدعونا لعدم التّفرقة أو التّمييز، بل إلى المحبّة المطلقة والأخوّة. المحبّة هي غير مشروطة، لا تتعلّق باستحقاق الآخر أو عدم استحقاقه، بل هي نابعة من إيماننا بالله وانتسابنا لجماعة المؤمنين. والصّوم المقدّس خير فرصة نغتنمها لنجدّد عهدنا مع الله فنسير بحسب وصيّته العظمى "أحبّوا بعضكم بعضًا" (يو 13: 34). فلنتمسّك بفريضة الصّيام كما حدّدته كنيستنا المقدّسة، وليثمر صومنا "أعمالاً تليق بالتّوبة" (أع 26: 20) فنوزّع الصّدقات على الفقراء والمساكين، مواظبين على الصّلاة الحارّة لكي يذلّل الرّبّ العقبات الّتي تعترض طريقنا الرّوحيّة فنرتفع عن الأرضيّات ونسمو نحو السّماويّات.

بارككم الرّبّ الإله وتقبّل صومكم وصلواتكم وصدقاتكم، وألهمكم الحكمة السّماويّة لتسيروا بنوره الإلهيّ، ولا تحيدوا عن شريعته. وليكلّل الله جهادكم الرّوحيّ بالغلبة ويزيّنكم بالفضائل ولينعم عليكم بأيّام طيّبة لنبتهج جميعًا بالاحتفال بعيد قيامته المجيدة بطهر ونقاء. نسأل الله، تبارك اسمه، أن يحفظكم من كلّ مرض وألم، بشفاعة السّيّدة القدّيسة العذراء مريم والدة الإله ومار بطرس هامة الرّسل ومار فيلوكسينوس المنبجي وسائر الشّهداء والقدّيسين، آمين. ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ."