لبنان
13 آذار 2023, 06:00

الرّاعي: كم نأمل أن نجمع النّوّاب المسيحيّين ورؤساء كتلهم في يوم رياضة روحيّة يكون يوم صيام وصلاة وتوبة ومصالحة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، القدّاس الإلهيّ في أحد الإبن الضّالّ في كنيسة الصّرح البطريركيّ- بكركي، ألقى خلاله عظة من وحي الإنجيل تحت عنوان "إنّ إبني هذا كان ميتًا فعاش، وضالًّا فوُجد" ( لو15: 24)، قال فيها:

"1. لمّا عاد الإبن الضّالّ إلى بيت أبيه، تائبًا عن خطاياه، ومصمّمًا على تغيير مجرى حياته بقوّة نعمة الغفران، صالحه أبوه، وأعاد إليه كرامة البنوّة، وأعلن لأهل البيت أنّ "ابنه كان ميتًا فعاش، وضالًّا فوجد" (لو15: 24). وبدأت وليمة الفرح والمصالحة الشّاملة.  

2. في هذا الأحد نبلغ منتصف زمن الصّوم الكبير. فكلّ هذه الآحاد والأسابيع من الصّلاة والصّوم والتّصدّق والتّقشّفات، إنّما تهيّئنا لاستقبال الرّبّ يسوع ملكًا على قلوبنا وعائلاتنا وأوطاننا، في أحد الشّعانين، وللدّخول معه في أسبوع الآلام المقّدس، راجين العبور مع قيامة المسيح إلى حياة جديدة. يكلّمنا الرّبّ يسوع في مَثَل إنجيل اليوم عن: الخطيئة ونتائجها، التّوبة وعناصرها، المصالحة وثمارها. وهذا ما سنتأمّل فيه.  

3. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، فأرحّب بكم جميعًا، وبخاصّة بنيافة الكاردينال Robert McElroy  رئيس أساقفة San Diego في الولايات المتّحدة الأميركيّة ومرافقيه الأسقف والكاهن، وسيادة أخينا المطران بيتر كرم المدبّر الرّسوليّ لأبرشيّة سيّدة لبنان- باريس المارونيّة. وأوجّه تحيّةً خاصّة إلى أهل عزيزنا المرحوم الأب حارس مطر، إبن الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة، الّذي ودّعناه بكثير من الأسى والصّلاة منذ إثني عشر يومًا مع أشقّائه وشقيقاته وأنسبائه ومع قدس الرّئيس العامّ الأباتي هادي محفوظ والآباء المدبّرين وأبناء الرّهبانيّة وأهالي لحفد ومعاد الأعزّاء.  

كما نحيّي عائلة المرحوم ألبير مسعد: زوجته وأبناءه وابنته وأشقّاءه وشقيقته والأنسباء. وقد ودّعناه معهم بكثير من الأسى وبصلاة الرّجاء منذ عشرة أيّام، مع أهالي عشقوت العزيزة ومعارفهم.

نصلّي في هذه الذّبيحة الإلهيّة لراحة نفسي المرحومين أخوينا الأب حارس وألبير، ولعزاء عائلاتهم وأبناء الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة.

4. ويطيب لي أن أرحّب بالوفد من المتقاعدين في قوى الأمن الدّاخليّ، وهم يطلبون منّا التّوسّط لدى السّلطات المعنيّة لنيل بعض مطالبهم الحيويّة ليعيشوا بكرامة مع عائلاتهم. وهي على سبيل المثال تختصّ بنفقات الطّبابة والاستشفاء، والمحروقات، والتّعويضات، وشراء السّلع، والمساعدات الاجتماعيّة والمدرسيّة وسواها. ونعدهم بمراجعة السّلطات المعنيّة.

5. في المثل الإنجيليّ الّذي سمعناه، يسوع المسيح، المعلّم الإلهيّ، يكشف لنا كرامة الشّخص البشريّ، الّتي يفقدها الإنسان بخطيئته مبتعدًا عن الله، ويستعيدها بعودته إليه بالتّوبة، فيصالحه الله ويلبسه من جديد حلّة البنين. إنّه إنجيل الرّحمة الإلهيّة والمصالحة في اتّجاهاتها الأربعة: مع الله، والذّات، والإخوة، والخليقة كلّها (البابا يوحنّا بولس الثّاني: المصالحة والتّوبة).

6. يتناول الرّبّ يسوع بشكل تنظيميّ في هذا المثل الخطيئة والتّوبة والمصالحة وثمارها. وهذا جوهر زمن الصّوم.  

الخطيئة هي قطع الإنسان علاقته البنويّة بالله ليعيش خارج نطاق الطّاعة، كما فعل الإبن الأصغر. هذا نوع من إنكار الله، والعيش كأنّ الله غير موجود، بل إزالته من الحياة اليوميّة. وهكذا يتضاءل مفهوم أبوّة الله وسلطانه على حياة الإنسان والمجتمع.  

فتكون نتيجة حالة الخطيئة العيش من دون قاعدة أدبيّة تميّز بين الخير والشّرّ. فتنحطّ كرامة الخاطئ غير التّائب في عين الله. وقد رمز إلى هذا الإنحطاط وفقدان الكرامة بالفقر بعد الغنى، والعمل المذلّ برعاية الخنازير بدل القصر الوالديّ، وسباقهم على أكل الخرنوب فلم يتيحوا له ذلك.

والتّوبة هي الرّجوع إلى الذّات، كما يعبّر عنها الرّبّ يسوع "برجوع ذاك الإبن إلى نفسه" أيّ إلى سماع ضميره، صوت الله في أعماق الإنسان. فعاد بالفكر إلى بيت أبيه، بروح النّدامة على الابتعاد عنه، والأسف في النّفس إذ قال: "كم من الأجراء في بيت أبي يفضل الخبز عنهم، وأنا هنا أموت لجوعي!" (لو 15: 7). تبدأ التّوبة بفحص الضّمير، فإدراك الخطيئة، والنّدامة عليها. ثمّ تأتي مرحلة اتّخاذ القرار بالتّغيير والخروج من حالة الخطيئة ومسبّباتها، وتنفيذ القرار، بالاعتراف وفرض عقاب تكفيريّ على الذّات. هكذا فعل الإبن التّائب من صميم قلبه، إذ "نهض ومضى إلى أبيه، وقال: "يا أبتِ خطئت في السّماء وأمامك، ولست أهلًا لأن أُدعى لك إبنًا" (لو 15: 20-21). لكنّ أباه سبقه إلى المصالحة، ولم يدعه يتلفّظ بكامل كلمات التّكفير (راجع لو 15: 21-22).

7. المصالحة يبادرنا بها الله عندما يرانا تائبين حقًّا وراجعين إليه. إنّها صورة الآب السّماويّ الّذي ينتظر عودتنا مستعملًا شتّى الوسائل لنرجع إلى نفوسنا. هذا ما عبّر عنه الرّبّ يسوع بصورة ذاك الأب الّذي "وفيما كان ابنه بعيدًا، رآه فتحنّن عليه، وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبّله" (لو 15: 20). وتكلّم عن ثمار المصالحة برموزها:

أ- إعادة كرامة البنوّة: "ضعوا خاتمًا في إصبعه".

ب- إرتداء ثوب النّعمة الّذي يجدّد ثوب المعموديّة: "أخرجوا الحلّة الفاخرة وألبسوه"

ج- السّلوك في طريق جديد بدل القديم: "وألبسوه حذاء في رجليه" (لو 15: 22).

أمّا الثّمرة الكبرى فهي وليمة الإفخارستيّا للجميع، وليمة الفرح والشّكر. إليها يرمز ذبح العجل المسمَّن (لو 15: 23). ما يعني أنّ المشاركة في الإفخارستيّا، أيّ صلاة الشّكر، وتناول جسد الرّبّ، تستوجب أوّلًا المصالحة مع الله والذّات والآخرين.

8. وكان لا بدّ من إدخال الإبن الأكبر المغتاظ من أخيه إلى مسيرة المصالحة والفرح. فوجّه إليه أبوه الدّعوة وراجيًا إليه الدّخول والمشاركة لكي تكتمل فرحة البيت (لو 15: 28). هذه هي صورة الكنيسة المتحلّقة حول المسيح الفادي في صلاة الشّكر- الإفخارستيّا. والمشاركة في ذبيحة الفداء ووليمة جسده ودمه لحياة العالم. لكن هذه المشاركة تستوجب أصلاً المصالحة.

9. معظم النّاس اليوم فقدوا معنى الخطيئة، حتّى أنّها أصبحت غير موجودة، بما فيها مخالفة وصايا الله ورسومه وتعليم الإنجيل والكنيسة. وأصبح العالم خاليًا من الخطيئة: فلا القتل خطيئة، ولا السّرقة ولا الفساد، ولا الضّغينة، ولا البغص، ولا الكبرياء، ولا حبّ النّزاع، ولا التّعدّي على حقوق الغير، ولا الظّلم، ولا الاستبداد، ولا الكبرياء، ولا القهر. ولذلك لا توجد توبة ولا شعور بندامة، ولا صوت ضمير يردع ويدعو إلى الإصلاح. هذا هو مكمن أزماتنا في لبنان سياسيًّا وأخلاقيًّا واقتصاديًّا وماليًّا واجتماعيًّا. والسّبب هو فقدان معنى الله، والابتعاد عنه، وجهل شريعته الموحاة في الكتب المقدّسة وتلك المكتوبة في الطّبيعة نفسها.

والجرم الجرم الّذي يرتكبه نوّاب الأمّة هو عدم انتخاب رئيس للجمهوريّة بسبب الفيتوات على هذا أو ذاك ممّن تُطرح أسماؤهم للتّرشيح. فمن أين حقّ الفيتو؟ ومن أين الحقّ في فرض شخص؟ فإذا شئتم الحوار، فتعالوا بتجرّد واطرحوا حاجات البلاد اليوم داخليًّا وخارجيًّا، وصوّتوا يوميًّا كما يقتضي الدّستور فيتمّ انتخاب الرّئيس الأحسن والأفضل في الظّروف الرّاهنة.  

والجرم الجرم الّذي يرتكبونه هو إفقارهم الشّعب يومًا بعد يوم، وقتله بتجويعه ومرضه وحرمانه وانتحاره، وإذلاله، وإقحامه على هجرة الوطن.

والجرم الجرم هو تفكيكهم أوصال الدّولة ومؤسّساتها الدّستوريّة، وإداراتها العامّة، وهو إهمال وهدر مداخيل الدّولة في الإدارات والمرافئ البحريّة والمطار وأبواب التّهريب.

طبعًا في ذهنيّة جميع المسؤولين عن هذه الأوضاع، لا يوجد أيّ شعور بالخطيئة أو إقرار بها أو وخز ضمير!

10. إنّنا نرحّب بالتّقارب بين المملكة العربيّة السّعوديّة وجمهوريّة إيران الإسلاميّة، واستعادة العلاقات الدّيبلوماسيّة بينهما بعد انقطاع دام ستّ سنوات، بسبب عدم احترام سيادة كلّ من البلدين، والتّدخّلات في شؤونها الدّاخليّة. الأمر الّذي وتّر العلاقات والأجواء الدّاخليّة والإقليميّة في لبنان وسوريا والعراق واليمن وبعض بلدان الخليج. إنّنا نبارك هذه الخطوة الّتي تندرج في خطّ المصالحة السّياسيّة. وكم نتمنّى ونرجو أن تحصل عندنا في لبنان وصولًا إلى استعادة هويّته الطّبيعيّة أيّ حياده وتحييده عن الصّراعات والنّزاعات والحروب الخارجيّة، لكي ينصرف إلى الدّفاع عن القضايا العربيّة المشتركة، وحقوق الشّعوب، والعدالة والسّلام، لكي يكون مكان التّلاقي وحوار الأديان والحضارات! وهذه دعوته التّاريخيّة.

وكم نأمل في زمن الصّوم المبارك أن نجمع النّوّاب المسيحيّين ورؤساء كتلهم في يوم رياضة روحيّة يكون يوم صيام وصلاة وسماع لكلمة الله وتوبة ومصالحة، إستعدادًا للعبور إلى حياة جديدة مع فصح المسيح.

11. إنّنا نضع هذه الأمنية في عهدة العناية الإلهيّة، وشفاعة إمّنا مريم العذراء سيّدة لبنان، رافعين المجد والشّكر للثّالوث القدّوس الآن وإلى الأبد".