الرّاعي من عمشيت : البحر هو العالم، والأسماك هم البشر، والشّباك هي الإنجيل، والصّيّادون هم الأساقفة والكهنة
وبعد الإنجيل المّقدّس ألقى البطريرك الرّاعي عظّة بعنوان "تعظّم نفسيّ الرّبّ" (لو46:1) جاء فيها: "نشيد أمنا وسيّدتنا مريم العذراء، "تعظّم نفسيّ الرّبّ" الّذي أنشدته في زيارتها لأليصابات بعد بشارة الملاك، إنّما هو نشيد نبويّ. فهو من جهة، ينطوي على كلّ العظائم الّتي أجراها الله في مريم، وسيجريها في البشر عبر التّاريخ، ومن جهة أخرى، أصبح نشيد الكنيسة وكلّ مؤمن ومؤمنة، عندما يرى كلّ منّا عمل الله في حياته الخاصّة ونشاطاته وإنجازاته.
من هذا الإيحاء قامت مؤسّسة ميشال عيسى للتّنمية المحلّيّة مشكورة بمبادرة رفع تمثال سيّدة البحار على السّنسول البحريّ في ميناء عمشيت، فيحيّيها صيّادو الأسماك الذّاهبون إلى الصّيد والعائدون منه والسّواح والمارّة بتحيّة "تعظّم نفسيّ الرّبّ.
يسعدنا أنّ نحتفل بتكريس تمثال سيّدة البحار، مع سيّادة أخينا راعي الأبرشيّة المطران ميشال عون، وأشكره على كلمة التّرحيب في بداية هذا الاحتفال، ومع سيادة أخينا المطران بولس روحانا، نائبنا البطريركيّ العامّ على منطقة صربا من الأبرشيّة البطريركيّة، إبن عمشيت ونسيب أصحاب مؤسّسة ميشال عيسى للتّنمية المحلّيّة، ومعكم. وإذ نحيّيكم جميعًا، نخصّ بالتّحيّة حامل إسم المؤسّسة السّيّد ميشال عيسى، ونجله الدّكتور طوني رئيس المؤسّسة، والعاملين فيها، والأستاذ فارس أبي أنطون رئيس الجمعيّة التّعاونيّة لصّياديّ الأسماك في ميناء عمشيت، ومعالي وزير الأشغال العامّة والنّقل المحامي يوسف فنيانوس، والمديريّة العامّة للنّقل البرّيّ والبحريّ.
إنّ مبادرة رفع تمثال سيّدة البحار مشكورةً وممدوحةً، لأنّها تعطي طابعًا قدسيًا لهذا المكان ببحره وشاطئه وبيئته. إنّه يذكرنا بكلام الرّبّ يسوع وآياته، وجرى معظمها على شاطئ بحيرة طبريا وعلى مياهها. فيها كان الصّيد العجيب مرتين: الأوّلى، في بداية رسالته، عندما أختار الأوائل من رسله، سمعان - بطرس ويعقوب ويوحنا (لو 5: 4-11)؛ والثّانية، بعد قيامته، وبعد العودة بالشّباك المملوءة 153 سمكًا كبيرًا من دون أنّ تتمزّق، أعلن سمعان - بطرس حبّه الشّديد ليسوع، فسلّمه الرّبّ رعاية الكنيسة (راجع يو21: 1-16). على ضوء كلام يسوع وآياته، نقرأ رموزها، فالبحر هو العالم، والأسماك هم البشر، والشّباك هي الإنجيل، والصّيادون هم الأساقفة والكهنة. في الواقع، عندما عاد الصّيّادون من ذاك الصّيد العجيب الأوّل، واندهش سمعان - بطرس وخر على قدميّ يسوع لأنه شكك في قدرته، أنهضه الرّبّ وقال له: "لا تخف، فمن الآن تكون صيّاد البشر للحياة" (لو11:5). نحن لا ندري أيّة مشاعر ستترك مريم أمّنا "سيّدة البحار" في نفوس الصّيادين والسّوّاح والمارّة وممارسيّ رياضة البحر والبرّ، عندما يطلبون شفاعتها، لكنّنا نعرف حقًّا أنّ "سيّدة البحار" ستعمل على طريقتها في استجابة التماس أبنائها وبناتها المؤمنين.
نحن نؤمن مع الكنيسة أنّ مريم أمّ الإله المتأنّس، يسوع المسيح، هي أمّنا بالنّعمة، إذ من فيض استحقاقات آلامه وصلبه لفداء الجنس البشريّ، ومن وساطته الوحيدة بين الله والبشر، تستمدّ لنا مريم النّعم الخلاصيّة، وذلك بفضل مشاركتها في عمل يسوع ابنها الخلاصيّ، وبفضل ما تميّزت به من بطولة في الإيمان والرّجاء والمحبّة. فباتت شفاعتها لا ترد.
"تعظّم نفسي الرّبّ" (لو46:1). وفي هذا النّشيد تنبّأت مريم عن العظائم التي يجريها الله فيها: فقد عصمها من الخطيئة الأصليّة، وصانت هي نفسها من كلّ خطيئة شخصيّة بقوّة النّعمة الإلهيّة؛ دعاها، وهي عذراء، لتكون أمًا لابنه مخلص البشر من خطاياهم بقوّة الرّوح القدس؛ حفظ بتوليّتها الدّائمة قبل الميلاد وفيه وبعده، لتّكون وجه الكنيسة النّقيّ الطّاهر، ومثال المكرّسيّن والمكرَّسات؛ أشركها بقوّة الإيمان والرّجاء والمحبّة في آلام ابنها يسوع من أجل فداء العالم؛ أقامها بثمرة آلامها مع ابنها يسوع، أمًّا للكنيسة والبشر ولكلّ إنسان بشخص يوحنّا الحبيب من على الصّليب (راجع يوحنا19: 25-27)؛ وفي نهاية حياتها على الأرض نقلها بنفسها وجسدها إلى مجدّ السّماء، وتوّجها سلطانة السّماوات والأرض، لتّكون أكثر شبهًا بابنها يسوع، ملك الملوك وسيّد السّادة. بانتقالها إلى السّماء، لم تغادر أرضنا. بل ظلّت معنا بعينها السّاهرة وبتشفّعها لدى ابنها الإلهيّ، لكي يبلغ جميع المسافرين في بحر هذا العالم إلى ميناء الخلاص.
أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، من هذا الشّاطئ وقبالة البحر نتذكّر أنّ البحر كان بالنّسبة إلى اللّبنانيّين على ممرّ العصور، وسيلة عبور وتواصل تجاريّ واقتصاديّ مع العالم الغربيّ. ومن ثم بحكم موقعه الجغرافيّ ونظامه السّياسيّ، كان لبنان جسرًا حضاريًّا وثقافيًّا عرّف الغرب على الشّرق، والشّرق على الغرب.
نتذكّر بالتّالي أنّ لبنان لم يشهر يومًا حربًا على أحد، ولا انطلقت من بحره أساطيل وسفن حربيّة. ونتذكر أنّ الشّعب اللّبنانيّ ناضل ببطولة بوجه الطّامعين والفاتحين حفاظًا على أرضه. وها ذكريات مرورهم وانكسارهم وفنائهم محفورة على صخور نهر الكلب. وقد شاء الطّوباويّ أبونا يعقوب حدّاد الكبّوشي أنّ يرفع تمثال المسيح الملك على تلّة نهر الكلب في زوق مصبح، ليقول إن كلّ الملوك والأباطرة والحكّام الطّغاة اندحروا وزالوا، ويبقي ملك المحبة والسّلام، يسوع المسيح.
إنّ الشعب اللّبنانيّ مدعوّ إلى أنّ يكون شعب المحبّة والسّلام. ويرفض أنّ تكون أرضه مقرًّا أو ممرًّا للاعتداء على غيره ولإشعال الحروب. فلا بدّ من أن يتميّز لبنان بحياده الإيجابيّ، فيكون مكان لقاء وحوار للجميع، ويتبنّى قضايا عالمنا الشّرق الأوسط في كلّ ما يختصّ بالعدالة والسّلام وحقوق الإنسان والشّعوب. على كلّ حال، هذه كانت رسالة لبنان، ويجب أن تبقى. فتقتضي من الجميع الولاء المطلق للبنان، واحترام كلّ الدّول والتّعاون معها وفقًا للأصول الدّستوريّة ومبادئ السّيّادة والاستقلال. على هذه الأسسّ يمكن تأليف الحكومة، ونطالب به بإلحاح ومسؤوليّة. فالحكومة ليست ملكًا لأحد من أصحاب الحصصّ والمصالح والمآرب الخاصّة والنّفوذ. فالشّعب اللّبنانيّ، المتضرّر كلّه من هذه الممارسة السّياسيّة، يرفض التّلاعب بمصيره وبلقمة عيشه وبمستقبل أجياله الطّالعة. إنّه في خيبة أمل، لا ينسى وعودكم الانتخابيّة".
إلى أمّنا مريم العذراء، سيّدة البحار، نكل وطننا وشعبنا ملتمسين الخروج من المعاناة والأزمات. فنرفع نشيد المجدّ والتّسبيح للثّالوث القدوس الذي اختارها، الآبّ والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".