لبنان
25 أيلول 2023, 05:55

عوده: لبناء دولة قويّة مكتملة العناصر وعدم التّطاول على سيادتها

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس مطران بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت، حيث كانت له عظة قال فيها:

"أحبّائي، إنجيل اليوم يروي لنا إحدى الآيات الّتي صنعها الرّبّ يسوع وتظهر سلطانه الإلهيّ. فقد رأى سفينتين واقفتين عند الشّاطىء، كان أصحابها بطرس وأخاه أندراوس، إضافةً إلى يعقوب ويوحنّا ابني زبدى، الّذين كانوا صيّادي سمك، والصّيّاد يعمل يوميًّا ليعيش بكرامة من بيع محاصيله. لقد تعب هؤلاء الأربعة طوال اللّيل ولم يصطادوا شيئًا، فجلسوا عند الصّباح يغسلون شباكهم من الأمور غير النّافعة الّتي علقت بها، ويصلحونها لكي يعودوا إلى عملهم ليلًا في محاولة جديدة لاصطياد ما يعتاشون منه. جميع الصّيّادين يعلمون أنّ الصّيد يتمّ خلال اللّيل، لأنّ البحر يكون مظلمًا، فيشعر السّمك بالأمان ويطفو باحثًا عن الطّعام الوفير.

قد يشبه بعض البشر الأسماك الجائعة فينشطون ليلًا، ظانّين أنّهم في مأمن من عيون الآخرين، كالسّارق أو الزّاني الّذي يظنّ أنّ خطيئته غير منظورة تحت جناح اللّيل، إلّا أنّ صيّاد النّفوس الشّرّير يكون متربّصًا بهم، منتظرًا إيّاهم ليقعوا في شباكه، فينقلهم إلى سفينته حيث يموتون.  

لقد جاء الرّبّ يسوع ليغيّر المفاهيم. دخل السّفينة وعلّم الجموع عن متنها، مانحًا إيّاهم كلمته المحيية لنفوسهم، والنّاقلة إيّاهم من موت روحيّ إلى حياة حقيقيّة، ثمّ طلب من بطرس أن يتقدّم إلى العمق ويعيد رمي الشّباك. هنا يظهر لنا الفرق بين عمل الله الخلاصيّ، المصنوع في وضح النّهار، أمام عيون الجميع، بلا خجل أو خبث، وبين عمل الشّيطان محبّ الظّلام، الّذي يمنح الإنسان راحةً ليليّةً كاذبةً وحرّيّةً مميتةً فيوقعه في شباك الموت. كما يظهر الفرق بين حكمة الله اللّامحدودة ومحدوديّة علمنا وإدراكنا البشريّين. الجميع يعلم أنّ الصّيد لا يتمّ إلّا خلال اللّيل، لكنّ الله يجعل غير المستطاع مستطاعًا، والطّاعة تصنع العجائب. لهذا، ومع أنّ بطرس خبير صيد بحريّ، ورغم تعبه طوال اللّيل، أطاع كلمة الرّبّ، وألقى شباكه بحسب كلام المعلّم، فكان العجب الباهر الّذي تجلّى بكمّيّة السّمك الكبيرة الّتي اصطادوها، والّتي لم تتّسع لها سفينة واحدة، فطلبوا مساعدة الأخرى.

بعد هذه المعجزة، تحرّك قلب بطرس ونفسه، وشعر بخطيئته، وكذلك حصل مع زملائه الصّيّادين، ذلك لأنّ النّعمة الإلهيّة لمستهم. هذا ما تذكّر به الكنيسة المقدّسة كلّ إنسان يسعى إلى تكريس نفسه خادمًا للرّبّ، إذ يسمع من الأسقف لحظة السّيامة: "النّعمة الإلهيّة الّتي للمرضى تشفي، وللنّاقصين تكمّل... هي تنتدب فلانًا...". الإنسان لا يستطيع شيئًا من دون النّعمة الإلهيّة الّتي تؤازره، وهذه لن يشعر بها إلّا متى أفرغ ذاته من كلّ خطيئة وشهوة ضارّة واستعدّ بتوبة واعتراف مثلما فعل بطرس، الّذي فرغت سفينته من السّمك، فصعد المسيح على متنها وملأها نعمةً فوق نعمة، فتحرّك قلبه وأدرك خطاياه وقال: "أخرج عنّي يا ربّ فإنّي رجل خاطئ".  

كثيرًا ما نشعر بأنّ حظّنا سيّئ، خصوصًا عندما تواجهنا صعوبة في توفير لقمة العيش، أو حين نمرّ في أزمة أو خسارة ما، إلّا أنّ الرّبّ يسوع في الحقيقة يريد سفينة حياتنا فارغةً، حتّى نحوّل نظرنا نحوه، عندئذ يأخذ يدنا ويدعونا للدّخول إلى العمق، ويطلب منّا أن نجتاز ضيقاتنا بالإيمان المرتبط بالطّاعة قائلين: "على كلمتك ألقي الشّبكة".

لقد كان من الضّروريّ أن يشعر بطرس بفراغ سفينته، حتّى يتعلّم هو ومن معه درس الصّيد الوفير الّذي لا يتمّ إلّا بواسطة الإيمان الكامل. هذا ما يعلّمنا إيّاه أيضًا البارّ سلوان الآثوسيّ، الّذي نعيّد له اليوم، والقائل: "إذا أصابتك شدّة فقل إنّ السّيّد يعرف قلبي، فإذا كان هذا ما يرضيه فكلّ شيء سيكون حسنًا لي وللآخرين". عندما نتفوّه بكلمات مماثلة، بإيمان كلّيّ، يعمّ الخير على الجميع، ويكون صيدنا وفيرًا.

يا أحبّة، يقول القدّيس سلوان أيضًا: "إنّ حبّ السّيّد حارّ مضطرم ولا يترك مجالًا لتذكّر الأرضيّات. والّذي ذاق حبّ السّيّد يبحث عنه ليلًا ونهارًا بلا هوادة. أمّا نحن فنضيّع هذا الحبّ بكبريائنا، بدينونة الأخ وبرفضه وبالحسد". هذا ما يحدث في هذا البلد الحبيب، حيث يبحث كلّ طرف عن أخطاء الطّرف الآخر حتّى يعرقله، وتاليًا يتعرقل العمل النّافع للجميع، بسبب الخصومات والمناكفات والحقد والمصالح. لم لا يتبارى المسؤولون بالمواهب الفضلى، كما يقول الرّسول بولس، أيّ يعملون بطريقة متكاملة، بصدق وأمانة، عوض أن يحاول كلّ واحد أن يهدم عمل الآخر لتظهر أناه، ويستعلن للجميع أنّه المنقذ. هل هكذا تبنى الأوطان؟ هذا سيغرق سفينة الوطن بمن فيها، فنخسر جميعنا كلّ شيء ولا يعود للنّدم نفع.

على الجميع الاعتماد على الدّولة الّتي يجب أن تكون ملجأ الجميع وحاميتهم، تؤمّن حقوق جميع المواطنين وتنشر العدالة فيما بينهم. ولكي نصل إلى هذا الوضع، يجب بناء دولة قويّة مكتملة العناصر، وعدم التّطاول على سيادتها وهيبة القضاء، والتّوقّف عن التّنافر والتّناحر والابتعاد بالأهداف عن هدف الدّولة. هذا يؤدّي إلى صراعات وانشقاقات لا تجدي ولا تنتهي إلّا بفشل الجميع وخسارتهم. الأجدى العمل السّريع على انتخاب رئيس وتكوين السّلطة وتركها تحكم بالقانون والعدل والمساواة.  

دعوتنا اليوم أن نؤمن بالرّبّ ونسلّم له ذواتنا ونعمل بهدى كلمته حتّى ولو بدا ذلك صعبًا في أعيننا، لأنّه لا يريد سوى خيرنا ومصلحتنا. فلنطبّق ما نقوله في صلواتنا مرارًا وتكرارًا: "لنودع أنفسنا وبعضنا بعضًا وكلّ حياتنا للمسيح الإله"، آمين".