الأراضي المقدّسة
24 شباط 2023, 07:30

بيتسابالا: لإعادة النّظر في ثوابتنا وفي هويّتنا

تيلي لوميار/ نورسات
عشيّة الأحد الأوّل من الزّمن الأربعينيّ، يتأمّل بطريرك القدس للّاتين بييرباتيستا بيتسابالا بإنجيل متّى 6، ويقول بحسب إعلام البطريركيّة:

"تأتي رواية تجارب يسوع في البرّيّة، في كلّ من الأناجيل الإزائيّة الثّلاثة، بعد خبرة عماد يسوع في نهر الأردنّ. يخرج يسوع من النّهر ممتلئًا من الرّوح القدس، أيّ من حياة الرّبّ ذاتها.

والرّوح القدس ذاته هو الّذي يقوده إلى البرّيّة (متّى ٤: ١)، إلى الحياة العاديّة، حياة كلّ يوم؛ تلك الحياة الّتي تضعنا أمام التّجربة وتطلب منّا إظهار هويّتنا الشّخصيّة، والكشف عمّن نكون.

إنّ هويّة يسوع هي، بالضّبط، ما تمّ الكشف عنها في نهر الأردنّ، هويّة كونه الابن الحبيب، الّذي وضع الآب حبّه فيه (متّى ٣، ١٧). وبالتّالي، فإنّ السّؤال "من أنت؟" يتطابق، بالنّسبة ليسوع، مع سؤال آخر هو: "ابن من أنت؟ لمن تنتمي؟".

ليس من قبيل المصادفة، إذًا، أن يبتدئ المجرّب بهذه العبارة: "إن كنت ابن الله..." (متّى ٤، ٣ و٦).

تتعلّق التّجربة دائمًا بهذا الجانب الأساسيّ من الحياة، فهي تمسّنا هنا، في علاقتنا بالآب، لأنّه على تلك العلاقة تعتمد حياتنا كلّها.

وبالتّالي، فنحن نرى عند تعرّضنا للتّجربة إن كنّا نعيش كأبناء، أم لا.

يُدرك يسوع تمامًا أنّه الابن، ولهذا السّبب يُجرّبه الشّيطان بناء على محتوى هذه العلاقة، بناء على طريقة عيشه البنوّة. ويعرض عليه شكلاً آخر منها.

إنّ التّجربة هي تحديدًا في الظّنّ بإمكانيّة وجود أشكال مختلفة من الأبناء، وأنّ كلّ شخص يمكنه اختيار الشّكل الخاصّ به، ويمكن أن يختار كلّ شخص أبًا مختلفًا عن الأب الّذي لديه.

في الواقع ليس هناك سوى أب واحد، ويسوع يختار هذا الأب، دون الاستسلام إلى تجربة البحث عن أب مختلف. ما هي الأشكال البديلة الّتي يقترحها الشّيطان؟

الشّكل البديل، في كلّ المواقف، هو واحد ليس إلّا، وهو الشّكل الّذي بموجبه ليس الابن هو الّذي يطيع الآب، بل الآب هو الّذي يطيع الابن.

في التّجربة الأولى، إذًا، كان ينبغي أن يحدث ذلك. وكأنّي بالشّيطان يهمس في أذني يسوع: أنت جائع، وأنت ستقرّر تغيير الأشياء وتطويعها لخدمتك. يجب على الخلق أن يطيعك، ويجب على الآب أن يُطيعك.

أمّا بالنّسبة إلى يسوع فإنّ الأمر ليس كذلك: لأنّ الّذي يُغذّي حياة الابن، هو بالضّبط كلّ كلمة تخرج من فم الآب، ولذلك هو يطيعه (متّى ٤، ٣-4).

في التّجربة الثّانية ننتقل إلى مستوى آخر، ولكن دائمًا في ذات الدّيناميكيّة. وكأنّي بالشّيطان يقول ليسوع: أنت تستطيع فعل كلّ شيء. تهوّر وافعل ما تشاء، وهكذا تجبر الآب على أن يخلّصك، وأن يبادر إلى معونتك إن كان أبًا حقيقيًّا.

أمّا موقف يسوع فهو كالتّالي: أنا لا أستطيع فعل كلّ شيء، لأنّني أترك الآب حرًّا في أن يحبّني كما يحلو له. لا أضغط عليه كي يطيعني، بل أنا الّذي أظلّ في موقف بنوّي (متّى ٤،٥-٧).

والشّيء نفسه بالنّسبة للتّجربة الثّالثة. يجيب يسوع: أنا لا أقرّر أيّ إله أعبد، لأنّه لا يمكن لأيّ أحد أن يكون له سوى إله واحد هو الآب (متّى ٤، ٨-١٠).

إنّ عمل الشّيطان، والهدف من التّجربة، منذ بداية التّاريخ المقدّس، هو أن يوحي للإنسان أنّ هناك إلهًا مختلفًا عن الإله الّذي كشف عن ذاته كأب. الإله الّذي يبشّر به إبليس هو إله غير محبّ، لا يقدّم كلّ شيء، ولا يمكن الوثوق به تمامًا، ولذلك يجب أن نقوم بتدبير أنفسنا بأنفسنا، ويجب أن نُخلّص أنفسنا بأنفسنا.

ستعود هذه التّجربة على الصّليب، ولكن بشكل أكثر مأساويّة ودهاء.

ولكن حتّى هناك يختار يسوع الاستماع إلى الآب وحده، والوثوق بالآب به، وعبادته دون غيره.

وهكذا، من الواضح أنّه، في بداية زمن الصّيام الكبير، يُطلب منّا إعادة النّظر في ثوابتنا وفي هويّتنا؛ وأنّه، على مثال يسوع، ليس لنا أيّة هويّة أخرى سوى كوننا الأبناء المحبوبين بينما يكون قلبنا شاخصًا نحو هذا الأب الوحيد والفريد".