لبنان
10 أيلول 2017, 13:27

الراعي من حدث الجبة: لبنان اليوم يحتاج إلى رجالات دولة حقيقيين جاؤوا ليعطوا بتفان وإخلاص لا ليأخذوا ما ليس يحق لهم

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس عيد مار دانيال في رعية حدث الجبة، بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان:"من يحب كثيرا، يغفر له الكثير"(لو7: 47) ، جاء فيها:

عندما جاءت المرأة الخاطئة المعروفة في المدينة، وأعربت عن ندامتها وتوبتها جهارا أمام الناس، وهي ساجدة وراء يسوع تبلل قدميه بالدموع، وتنشفها بشعر رأسها، وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب، أدرك يسوع أن توبتها فعل حب كبير لله، فأعلن: "من يحب كثيرا، يغفر له الكثير". وقال للحاضرين أنخطاياها الكثيرة مغفورة لها، لأنها أحبت كثيرا". وتوجه إليها قائلا: "إيمانك خلصك! إذهبي بسلام" (لو7: 47-48). خلاصة التعليم الإلهي هي أولا أن التوبة في جوهرها فعل حب لله صادر من قلب إنسان يندم على خطاياه ويلتمس مغفرتها من رحمة الله. وثانيا أن رحمة الله أكبر من خطايا البشر مهما ثقلت. ذلك أن رحمته تنبع من أحشاء أبوته. فلنلتمس منه نعمة توبة القلب، لبدء حياة جديدة".

 "يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهية في عيد القديس النبي دانيال، شفيع رعية حدث الجبه العزيزة. وفي المناسبة نحتفل بإزاحة الستارة عن تمثال ابو كرم الحدثي، شهيد الإيمان والحرية. فيطيب لي أن أحييكم مع سيادة أخينا المطران جوزف نفاع، نائبنا البطريركي العام على منطقة الجبه السامي الاحترام، ونحيي كاهن الرعية وسائر الكهنة ورهبانها وراهباتها، ورئيس المجلس البلدي والأعضاء والمخاتير ومجالسهم، والوجوه الكريمة الحاضرة، أبناء الرعية وبناتها. وإنا، إذ نهنئكم بعيد القديس دانيال النبي، نقدم هذه الذبيحة المقدسة على نواياكم، ونوايا عائلاتكم. ونذكر بصلاتنا مرضاكم راجين لهم الشفاء الجسدي والروحي والمعنوي، ونصلي لراحة نفوس موتاكم الذين سبقونا إلى بيت الآب".

"نحتفل بعيد النبي دانيال، شفيع الرعية، الذي اشتهر بتفسير أحلام الملوك، فقال لهم تفسيره للأحلام بشجاعة وتجرد. وكانت أحلام عن سقوطهم. فأحبه الملوك واحترموه وقدروه، ولا سيما داريوس في أواخر سنة 600 قبل المسيح. دافع الملك عنه بوجه وزرائه، الذين حسدوه لمنزلته عند الملك، ووشوه إليه بأنه لا يسجد للتمثال الذهبي. فطرحوه في جب الأسود، فلم تؤذه. ففرح الملك بنجاته فرحا عظيما، وأمر برمي الذين وشوه في جب الأسود، فافترستهم. وقتل دانيال تنينا كانوا بعبدونه. فطرحوه في الجب مرة ثانية، فنجاه الله من أنياب الأسد وأخزى أعداءه".

"في سفر دانيال، وهو من مجموعة الكتب المقدسة في العهد القديم، نجد دروسا عن الإيمان والرجاء، ولاهوت تاريخ شعب الله، والدعوة إلى الاعتصام بالله وعنايته في كل صعوبة من حياتنا، وبخاصة في محن الاعتداء والاضطهاد، من أي نوع كان، جسديا أم روحيا أم معنويا. إننا نلتمس شفاعته في كل الظروف".

"نحتفل معكم بإزاحة الستارة عن تمثال القائد الحدثي، شهيد الإيمان والحرية. فهو، بعد مقتل الأمير فخر الدين المعني الثاني على يد الأتراك قام بالانتفاضة التاريخية ضد والي طرابلس، ليدافع عن كرامة شعبه وعن بطريرك الطائفة، وليعبر عن رفض الموارنة لكل سلطة غريبة، وعن ارتباطهم بجبل لبنان كقاعدة لحريتهم ".

"فلا عجب! إنه ابن الحدث، المعروفة بكونها معقلا مارونيا، يستمد قوته وروحانيته من الوادي المقدس وأريج القديسين من بطاركة وأساقفة وكهنة ورهبان ونساك ومؤمنين. فأعطت الحدث ثلاثة بطاركة كبار توالوا تباعا على كرسي سيدة قنوبين على مدى تسع وسبعين سنة، بعد البطريرك يوحنا الجاحي الذي نقل الكرسي من سيدة إيليج إلى سيدة قنوبين عام 1440. وهم: يعقوب الحدثي (1445-1468)، وبطرس ابن حسان الحدثي (1468 - 1492) وسمعان بن داود بن حسان الحدثي (1492-1524)".

"كما أعطت الحدث عددا وفيرا من الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات، بفضل عائلاتها المسيحية المارونية، المحافظة على تقاليد الإيمان والقيم الروحية والأخلاقية، فضلا عن وجوه العلم والسياسة والقضاء والإدارة وسواها".

"انتفاضة القائد أبو كرم الحدثي، بشجاعته التاريخية المعروفة، مستمدة من تقاليد الحدث، ومن قوة الإيمان المرتفعة كالبخور من الوادي المقدس، ومن قيادة البطاركة الحدثيين الثلاثة، ومن شجاعة النبي دانيال وصلابة إيمانه والرجاء. فلما راح والي طرابلس، بعد إعدام الأمير فخر الدين الثاني الكبير في القسطنطينية - اسطنبول اليوم، بتاريخ 4 اذار 1635، يقوم بأعمال انتقامية شرسة ضد الموارنة، حلفاء الأمير، ويفرض الضرائب الباهظة عليهم، وينكل إلى اقصى الحدود بالبطريرك جرجس عميره، ليسلمه ثروة أبو كرم الذي قيل له أنه أودعها في دير قنوبين. فاقتاد جنود الوالي البطريرك مكبل الأيدي وتحت الضرب إلى الجبال الوعرة. وربطوه هناك بالسلاسل مع رفاقه الموارنة، الذين ضربوا بالعصي 35 و40 ضربة. ثم اطلقوهم بشرط تسليم المال، فلجأوا إلى الأحراش والمغاور". 

 "عندها قام أبو كرم الحدثي كالأسد بانتفاضته، حتى استشهاده خنقا في طرابلس سنة 1640، بعد أن حضر تلقائيا أمام الباشا التركي، ودافع ببسالة مذهلة عن إيمانه المسيحي الكاثوليكي بيسوع المسيح، رافضا إغراءات الوالي بوظائف رفيعة لقاء إنكاره الدين المسيحي واعتناق الإسلام، ومجددا التزامه الدفاع عن شعبه ووطنه. 
ولقد تناقل المؤرخون بدءا من البطريرك المكرم اسطفان الدويهي، فإلى مؤرخين لبنانيين وأجانب أخبار أبو كرم الحدثي وبطولات انتفاضته وصلابة إيمانه".

 

"في مجتمعنا الذي يسوده الفساد السياسي والإداري لدى عدد يتزايد يوما بعد يوم، بسبب مخالفة الدستور والقانون روحا ونصا، وتعطيل أجهزة الرقابة وعدم تنفيذ معظم أحكام القضاء، والتغطية السياسية من النافذين لكل هذه المخالفات، وفي طليعتها اليوم عدم إجراء الإنتخابات النيابية الفرعية، وربما تلك العادية المستحقة في أيار المقبل، كما يروجون ويهيئون النفوس لتقبل هذا الإرتكاب المشين. مثلما كان يحصل في المرات الثلاث الماضية. فإذا بالدستور والقانون والعدالة يفقدون قيمهم وكرامتهم، وتفقد الدولة مهابتها وقدرتها. ومن المؤسف أن يكون ذلك على يد حكامها والمسؤولين، فتصبح الدولة الواحدة دويلات ومربعات".

"نحن بأمس الحاجة إلى رجالات دولة يتحلون بشجاعة وتجرد النبي دانيال والقائد أبو كرم الحدثي. فلن ينهض لبنان من أزماته السياسية والإقتصادية والإجتماعية، إلا على يد سياسيين ومسؤولين كبار وكبرهم لا في نفوذهم السياسي بل في شجاعة التجرد من المصالح الرخيصة، والإغراءات المالية، والأرباح غير الشرعية. أجل، لبنان اليوم يحتاج إلى رجالات دولة حقيقيين جاؤوا ليعطوا بتفان وإخلاص، لا ليأخذو ما ليس يحق لهم. حينئذ يحفظ المال العام، ويكثر بوفرة، وتتأمن للمواطنين كل حقوقهم الأساسية من أجل عيش كريم ومكتف . إن حقوقهم في الحصول على فرص عمل وتأمين المسكن والعلم والطبابة هي لهم بحكم المواطنة ومن واجب الدولة والمسؤولين. وليست منة من أحد".

 "اللهم أنعم علينا بمثل هؤلاء الرجالات ليخدموا الوطن والشعب والمؤسسات وفقا لقلبك. فنرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".