لبنان
24 أيلول 2017, 08:30

الراعي من بكركي : وسط الحروب والمحن والاعتداءات يدعونا الربّ يسوع للصمود في الإيمان

ترأس البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الأحد من الصرح البطريركي في بكركي. وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى الراعي عظة بعنوان : "مَن يصبر إلى المنتهى يخلُص" (متى 24: 13)، قال فيها :


 

1. وسط الحروب والمحن والاعتداءات والتضليل والاضطهادات، يدعونا الربّ يسوع للصمود في الإيمان، والثبات في الرجاء، والمحافظة على شعلة المحبة في القلوب. ويؤكِّد: "مَن يصبر إلى المنتهى يخلُص" (متى24: 13).

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة لنحيي الذكرى العاشرة لشهداء الجّيش اللبناني الّذين سقطوا في معركة نهر البارد بوجه الإرهابيِّين. وقد دعت إلى هذا الاحتفال لراحة نفوسهم، مؤسّسة المقدَّم المغوار الشّهيد صبحي العاقوري، التي أنشأتها زوجته السيّدة ليا إحياءً لذكراه وذكراهم، تحت شعار: "لله رجال، إن هم أرادوا أراد". في هذه الذّكرى العاشرة شاءت القيادة في الكليّة الحربيّة إطلاق اسمه على فوج الضبّاط المتخرّجين في هذا العام.

3. تُعنى هذه الجمعيّة مشكورة بأطفال لبنان، وبخاصّة بأطفال شهداء الجيش والعسكريِّين في الخدمة الفعليّة. فتقوم بنشاطات لصالحهم من مثل السفر إلى الخارج وتنظيم رحلات ومخيّمات ترفيهيّة؛ بالإضافة إلى إنشاء حدائق عامّة في أكثر من منطقة لبنانيّة، وتجهيز قاعات في ثكنات عسكرية.

 

إنّها مبادرة حميدة تحتاج إلى الدعم والوقوف بجانبها، من أجل تضميد جراح عائلات الشهداء العسكريِّين، زوجات وأطفالًا. وهي مبادرة للإقرار بالجميل للجيش والقوى الأمنيّة كافّة على التضحيات التي يبذلونها حتى إراقة دمائهم من أجل لبنان وشعبه وكرامته.

4. أودّ أن أحيِّي معكم الجيش اللبناني، قيادة وعسكريِّين، وكلّ الحاضرين معنا من ممثّلين وضبّاط، وسواهم من عائلات الشهداء. ونحيّي "جمعيّة المقدَّم المغوار صبحي العاقوري" وزوجته المؤسِّسة، وأولاده الأربعة: جويس وجو وكلوي وكريستي، الذين كانت أعمارهم، يوم استشهاد والدهم، تتراوح بين الخمس سنوات والسبعة أشهر.

5. "من يصبر إلى النهاية يخلص" (متى 24: 13). لقد صمد الجيش، قيادة وضبّاطًا وعسكريّين، وصبر على المحن في معركة نهر البارد منذ عشر سنوات. فانتصر على الإرهابيّين وجنّب ببسالته وحكمته وشجاعته، وبدماء شهدائه، وطننا من شرّهم ومطامعهم، وبدّل حسابات مَن كانوا وراءهم. والجيش هو إياه يواصل، من عهد إلى عهد، انتصاراته وصولًا إلى انتصاره الأخير في معركة فجر الجرود. إن القاعدة الأساسيّة عنده حماية المدنيّين، واحترام القرار السياسي بموجب المادة التاسعة والأربعين من الدستور التي تنصّ على أنّ رئيس الجمهورية "يرئس المجلس الأعلى للدفاع، وهو القائد الأعلى للقوات المسلّحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء".

6. في إنجيل اليوم، ينبّهنا الربّ يسوع عن الأخطار التي نواجهها وتواكب حياتنا وفقًا لظروف تتبدّل وتتراوح بين سهلة وصعبة. ينبّهنا عن ثلاثة:

أ- شرّ المضلّلين والمشكّكين الذين يبثّون افكارًا تولّد الفوضى وانعدام الثقة، سواء على المستوى الديني أم الأخلاقي أم الاجتماعي أم الوطني، هؤلاء يزعزعون الإيمان، ويتلاعبون بالضمائر.

ب- واقع الحروب والاضطرابات والمجاعات والزلازل التي قد تضعف الإيمان بالله وبعنايته، وتحمل على الظّن أنّ الشرّ أقوى من الخير، وانّه يحدّ من قدرة الله؛ كما قد تحمل على الاعتقاد أنّ القوة والمال والسلاح هم الوسيلة الفضلى والضامنة.

ج – العداوة والنزاعات والاعتداءات بين الناس، التي تتسبّب بالارتداد عن الإيمان، وبجفاف المحبة والمشاعر الإنسانيّة في القلوب، وتكسر وحدة المجتمع المدني.

7. بوجه هذه الأسباب، مهما كبرت وتفاقمت، يدعونا الربّ يسوع لنلوذ بالصبر الذي ينطوي على إيمان عميق بالله، ورجاء ثابت بعنايته، ومحبة له مترسّخة في القلب.

هذا موقف يمليه علينا إنجيل يسوع المسيح المسمّى "إنجيل الملكوت". أعني الإنجيل الذي ينشر، في المجتمعات البشريّة، ثقافة السلام والحقيقة واحترام الآخر، وثقافة العدالة والمحبة والحرية، وثقافة الأخوّة الشاملة وقدسيّة الحياة البشريّة وكرامة الإنسان.

8. لقد ترك هذا "الإنجيل" معالمه في بلدان الشّرق الأوسط حيث يُنادى به منذ ألفي سنة، منذ عهد المسيح والرسل. لكن معالمه الشّاملة تثبّتت في لبنان، في ثقافة العيش المشترك بين المسيحيِّين والمسلمين على اختلاف مذاهبهم، مثلما حدّدها الميثاق الوطني والدستور، وفي ميزة تنوّع شعبه وحضارته التي هي عصارة حضارات متراكمة، كما أشار فخامة رئيس الجمهورية في كلمته أمام الجمعيّة العموميّة لمنظّمة الأمم المتّحدة في 21 ايلول الجاري. وطرح بالتالي "ترشيح لبنان ليكون مركزًا للحوار بين مختلف الحضارات والديانات والأعراق، ومؤسّسة تابعة للأمم المتّحدة". لكن هذا الترشيح يقتضي حياد لبنان وتحييده عن الصّراعات الإقليميّة والدّوليّة، وفي الوقت عينه، التزامهفي قضيّة العدالة والسّلام بين الشّعوب والدّول، وجوًا سياسيًا ملائمًا تسوده الوحدة الوطنية واحترام حقوق الجميع وواجباتهم.

9. ونضمّ صوتنا إلى صوت فخامة الرئيس، للمطالبة بعودة النازحين السوريّين الآمنة لا الطوعية إلى وطنهم وبيوتهم، مثلما أوضحها في كلمته، ونطالب بها، ليس فقط لأنّ لبنان لا يمكنه أن يتحمّل بعد الآن نتائج عددهم الباهظ والمرهق الذي يفوق المليون ونصف، ويتهدّد لبنان اقتصاديًّا وأمنيًّا ومعيشيًّا وسياسيًّا، ولكن ايضًا لكي يحافظ الشعب السوري على ثقافته وحضارته الغنيَّتَين. الأمر نفسه نقوله بالنسبة إلى النازحين العراقيّين. ونضمّ صوتنا إلى صوت فخامة الرئيس من أجل عودة اللّاجئين الفلسطينيِّين، وعددهم نصف مليون، إلى أرض فلسطين، مطالبين الأسرة الدوليّة بإقرار مشروع الدولتَين، وإلزام إسرائيل بالتوقّف عن إقامة مستوطنات جديدة على أرضهم المعدّة لتنشأ عليها دولتهم.

10. زمنُ الصليب الذي نعيشه، يذكِّرنا بأنّنا نسير في دنيانا تحت لواء صليب محبة الفادي الإلهي، موقنين أنّنا "نسير بين اضطهادات العالم وتعزيات الله"، على ما كتب القديس اغسطينوس. فنرفع دائمًا نشيد المجد والانتصار، بقوّة الصليب المقدّس، للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

*  *  *